من داخل مشفى درعا الوطني قبل أيام
من داخل مشفى درعا الوطني قبل أيام

تتنقّل السيدة سميرة (35 عامًا) من غرفةٍ إلى أخرى، وتسأل هنا وهناك عن طبيبٍ أو ممرضةٍ، وسط الممرات المزدحمة، والنظافة شبه المعدومة، والاستجابة المحدودة. تتكرر هذه المشاهد في معظم المشافي الحكومية في محافظة درعا: نقصٌ في الكوادر، وخدماتٍ غير متوفرة، وأدوية أساسيّة وصور شعاعيّة وتحاليل تُطلب من خارج المشفى.

تقول هذه السيّدة: “المنامة بالعناية بـ 250 ألف ليرة، وحتى السيروم بيطلبوا من المرافق يجيبه من برّا المشفى. كأنك داخل مشفى خاصّ، وليس وطني، كل شيء بالدفع، بس بلا خدمات حقيقية”.

يؤكّد الدكتور عقلة الحنفي، مدير مشفى نوى الوطني، في حديثه لشبكة درعا 24، أن هناك نقصًا فعليًّا في معظم المواد والمستلزمات، من أدويةٍ ومواد تخدير إلى أبسط الأمور اليومية. ويضيف: “أحيانًا نضطر لشراء اللاصق الطبي والسيرومات وكفوف جراحيّة على حساب المشفى، وفي بعض الأحيان لا نقدر على فعل شيء، لذلك نطلب من المريض يشتري بعض المواد من خارج المشفى”.

ويشرح الطبيب أنّ فرض الرسوم على بعض الخدمات داخل المشفى، مثل العمليات والتحاليل والصور الشعاعيّة، هو أمرٌ معمولٌ به في جميع المشافي الحكوميّة في سوريا، وليس فقط في درعا. ويؤكّد أنّ هذه الرسوم ضرورية لتأمين استمرارية العمل وتوفير الخدمة.

يقول: “أسعار المواد المخبرية ومواد التخدير مرتفعةٌ جدًا، وأقل فاتورةٍ ندفعها تصل إلى 10 ملايين ليرة. أمام هذا الواقع نحن مضطرين إمّا نُقدّم خدمات بسيطة جدًا ولساعات محدودة من اليوم، أو نأخذ نسبة معينة، حتى نقدر نقدم خدمة جيدة للمواطنين”.

الدكتور عقلة الحنفي مدير مشفى مدينة نوى غربي درعا
الدكتور عقلة الحنفي مدير مشفى مدينة نوى غربي درعا

الولادات: تفاوت في التكاليف

وفي قسم التوليد، لا يبدو الوضع مختلفًا. تقول السيّدة رُبى لشبكة درعا 24، وهي أم لطفل مولود منذ أسابيع قليلة: “الممرضة ترفع صوتها علينا، وعلى كل شي جاي على المشفى، ولا أحد يراعي حالة وحدة حامل أو على وجه ولادة. بتحس حالك عبء عليهم ومجبورين على استقبالك“. 

تستدرك السيدة: “في ممرضات يعملوا بضمير طبعاً، لكن ما فيهم يغيّروا شيء. الجو العام كله مكهرب، ضغط وتعب وفوضى، والأسعار للولادات صحيح أقل من القطاع الخاصّ لكن مكلفة أيضًا”.

وفقاً لعدة شهادات جمعتها درعا 24 فإن الولادة القيصرية في المشافي الحكومية تصل إلى 600 ألف ليرة، والطبيعية 150 ألف، وقد ترتفع هذه الأسعار بين مشفى وآخر. ويفضل العديد من الأهالي الانتقال إلى القابلة القانونية في حالة الولادة الطبيعية، وإلى المشافي الخاصة في حالة الولادة القيصرية والتي تصل تكلفتها إلى أكثر من مليوني ليرة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف تكلفة الولادة القيصيرية في المشافي الحكومية، ولكنهم رغم ذلك يفضلون دفع هذه المبالغ، لأن مستوى الرعاية أفضل بكثير في القطاع الخاصّ.

يوضح الدكتور الحنفي أن الولادات الطبيعية في المشفى الذي يُديره تُقدَّم مجانًا، أما القيصرية فتُفرض عليها أجور تُقدّر بـ 600 ألف ليرة سورية: 300 ألف للطبيب، و300 ألف للمشفى، في حين تُغطي عائدات المشفى كلفة التخدير أيضًا. ويضيف: “بعض العمليات العظمية مثلاً تتطلب مواد أسعارها باهظة مثل الصفائح والبراغي، لذلك تكون تكلفتها أعلى، لكنها تظل أقل بكثير من كلفة القطاع الخاص”.

كما يشير إلى أن بعض المشافي الحكومية الأخرى تتقاضى أجورًا على الولادات الطبيعية، إضافة إلى رسوم الحاضنات والمستلزمات، وتكون الرسوم فيها أعلى مما هو معمول به في مشفى نوى.

اقرأ أيضاً: شكاوى حول أجور العمليات الطبية بما فيها القيصيرية

ضعف البنية وفوضى

إلى جانب النقص في المستلزمات والخدمات، تعاني بعض المشافي الحكومية من غياب شبه تام للانضباط، ففي مشفى درعا الوطني، كشف أحد العاملين، في شهادة حصلت عليها درعا 24، قائلاً: “في كثير من الأحيان لا يستطيع عناصر الشرطة على باب المشفى أن تمنع دخول المرافقين خارج أوقات الزيارة، المرافقون ينتشرون بكثافة داخل الأقسام، بعضهم يسيء إلى الكادر، يسبّونه ويهددونه إذا غضبوا من شيء، وكثير منهم يحملون السلاح. ولا أحد يجرؤ على إخراجهم، لا الإدارة، ولا عناصر الأمن، ولا الشرطة.

ويضيف العامل الطبي: “الوضع انفلت بالكامل. حتى الشرطة لا تتدخل، وقال لي أحدهم حين اتصلت لأطلب إخراج المخالفين: لا تعلّقني مع الناس. من فترة تعرض شرطي لمحاولة إطلاق نار لأنه حاول منع دراجة نارية من الدخول إلى المشفى”.

كما يؤكد أنه قبل أيام فقط، اجتمع أكثر من 15 شخصًا داخل قسم العناية المشددة في نفس الوقت، وبعضهم كان يدخن، وعندما طُلب منهم الخروج، كان الردّ على الكادر الطبي: “أنتم من فلول النظام السابق”.

هذا التسيّب الأمني والضغط المتواصل، غياب وجود أي تحفيز مادي، دفع بعض العاملين لتقديم استقالاتهم، وفق ما أكده نفس المصدر، مشيرًا إلى أن “الطبيب يأتي للعملية، يأخذ أجره ويغادر، بينما الممرضون والمقيمون يبقون في وجه التهديدات والمشاكل، ويُطلب منهم العمل 24 ساعة دون مكافآت أو تعويضات”.

وعلى الرغم من أن المشفى – بحسب المصدر – “يدخل شهريًا بين 250 و300 مليون ليرة من أجور التحاليل والأشعة”، إلا أن العاملين لا يرون أي أثر لذلك: “لا حوافز، لا تحسين بيئة العمل، حتى الوجبات التي تُقدّم تراجعت بشكل كبير، من وجبات مطبوخة إلى بيض نيئ وقليل من اللبنة، دون سكر أو شاي منذ ثلاثة أشهر. حتى الصابون والمنظفات تُسرق، والإدارة تغض النظر”.

مشفى درعا الوطني
مشفى درعا الوطني

خدمات مفقودة

تصل العديد من الشكاوى لشبكة درعا 24 حول الكثير من الخدمات غير المتوفرة، فمثلًا التحاليل والصور الشعاعية، والتي إن وجدت، فهي تشهد حالة من الفوضى. يشرح أحد المراجعين في شكواه: “التحاليل بالمخابر الحكومية غالباً يا أزمة يا أما في عطل، وبالتصوير نفس الشي، ويدفع المريض تكاليف ذلك أيضًا على حسابه”.

أما في قسم الإسعاف في المشافي الحكومية، يصف مراجعون التعامل بالبارد: “الاستقبال ما فيه أي اهتمام. حالة إسعافية أو حادث، كلشي يستقبلوه بعدم اكتراث. كل واحد بيرمي المريض على الثاني، وكل شي بالمصاري مثل المشافي الخاصة”. أيضًا تشير شهادات متعددة إلى أن كل شيء تقريبًا أصبح مدفوعًا داخل هذه المشافي، بدءًا من التحاليل وحتى السيرومات الإسعافية.

يؤكد الدكتور الحنفي في هذا الصدد ضعف التمويل الحكومي: “الإمدادات التي تأتي من الوزارة لا تغطي سوى 10% من احتياجات المشافي”. وهناك تحدّي كبير وهو نقص الكوادر، حيث بالاعتماد على الموجودة داخل الملاك فقط لا تستطيع المشفى أن تعمل على مدار 24 ساعة، لأن الأعداد قليلة. موضحاً أن الأطباء الجرّاحين، يتقاضون أجورًا مقابل العمليات، وهم من خارج المشفى، نضطر لإعطائهم أجور لتأدية الخدمة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي بسببه يتم تقاضي رسوم، وهي رسوم قليلة جدًا لا تتجاوز 25% من تكلفة العمليات الجراحية في القطاع الخاص.

ويشير الطبيب إلى أنهم يعملون على أن لا يضطر المريض لشراء شيء من خارج المشفى، وتأمين ما يلزم من خلال الإيرادات التي تحصل عليها المشفى من العمليات والأشعة، لكنه يؤكد صعوبة تأمين كل شيء.

أُنجزت مؤخراً في مشفى نوى بعض التحسينات وذلك عبر صندوق المشفى، شملت إصلاح أجهزة تخدير وإيكو، وتجهيز عيادات خارجية وأجهزة حديثة.

مشفى مدينة نوى الوطني
مشفى مدينة نوى الوطني

واقع صحي يتآكل منذ سنوات

لا يقتصر الخلل على نقص المستلزمات الأساسية، بل يمتد إلى طريقة التعامل مع المرضى، كما حدث مع السيدة سميرة، وهذا ما أكده أحد الممرضين لشبكة درعا 24: “معظم الممرضين في المشافي رواتبهم ضعيفة جداً، وإذا أردت للمريض الذي يأتي أن يُعامل بشكل جيد، لازم تدفع لحدا من الممرضين، بظل يساعدك كل الوقت، ولما ما تدفع ما حدا بهتم”.

يتابع: “مع الأسف هذا تصرف غير صحيح، ولكن هذا واقع المشافي، ونسبة ليست قليلة من الممرضين من هذا النوع، إلا من رحم ربي. والواقع الصحي أساساً منهار بشكل كامل، وليس فقط المشافي”.

تعاني المشافي والبنية الصحية بشكل عام من تبعات سنوات الحرب الطويلة، ما بين دمار واسع للبنية التحتية ونقص حاد في التجهيزات والكوادر. وفق التقرير الأخير الصادر عن منظمة الصحة العالمية الصادر في كانون الثاني 2025 فإن أكثر من 16.7 مليون شخص في سوريا بحاجة إلى خدمات صحية إنسانية، في أعلى رقم يُسجّل منذ 2011. ووفق التقرير، فإن نحو 38% من المستشفيات و47% من المراكز الصحية في البلاد خارجة عن الخدمة كليًا أو تعمل بشكل جزئي، وسط نقص حاد في المياه، الكهرباء، ومواد التعقيم الأساسية.

 كما أشار التقرير إلى أن أكثر من 70% من الكوادر الطبية المؤهلة غادرت البلاد، ما تسبب في فجوة خطيرة، خاصة في الاختصاصات الدقيقة. في عام 2024 وحده، تم توثيق 77 هجومًا على منشآت صحية، لا سيما في شمال غرب سوريا، بينما لم يتم تأمين سوى 35% من التمويل المطلوب للقطاع الصحي هذا العام، ما ينذر بخطر توقف مزيد من الخدمات خلال الفترة المقبلة.

يتطلع العاملون في قطاع الصحة والمرضى وذووهم بأمل، بعد سقوط النظام، راجين أن يفتح ذلك نافذةً جديدة لإصلاح هذا القطاع. وقد صرح وزير الصحة في الحكومة السورية الانتقالية، مصعب نزال العلي، بوجود خطط لإشراك الطبيين بالخارج وتحسين التوريد، لكنه أشار في أكثر من مقابلة إلى أن البلاد ما تزال تواجه تحديات ضخمة في إعادة تأهيل القطاع الصحي.

وأكد الوزير أن الوزارة تعمل على تأسيس نظام صحي متكامل “يليق بالشعب السوري”.

ورغم التصريحات المتكررة والوعود الحكومية بإصلاح القطاع الصحي، إلا أنّ الواقع لا يزال يُكذّب الآمال. إذ تشير شهادات المرضى والعاملين في هذا المجال إلى تردٍّ متصاعد في الخدمات، وندرة في الكوادر والمستلزمات، ما يجعل الحديث عن نظام صحي “يليق بالشعب السوري” أقرب إلى الشعارات منه إلى السياسات الفعلية على الأرض.

الرابط: https://daraa24.org/?p=52068

موضوعات ذات صلة