يشهد الجنوب السوري في المرحلة الراهنة اهتمامًا متزايدًا من مستثمرين محليين، رغم حالة عدم الاستقرار الأمني التي ما تزال قائمة والانهيار الاقتصادي الذي خلّفه النظام السابق. يسعى بعضهم إلى إعادة تشغيل منشآت متوقفة أو تأسيس مشاريع جديدة، خاصة في بعض مناطق محافظة درعا ولا سيما مركز المدينة. في الوقت نفسه، بدأت استثمارات خليجية ودولية بمليارات الدولارات تتدفق إلى سوريا بعد سقوط النظام ولكنها تتركز بشكلٍ خاصٍّ في العاصمة دمشق، وسط نقاشٍ واسع حول الفرص والتحديات وغياب الشفافية.
يعتقد بعض المستثمرين أن اللحظة الراهنة تتيح فرصًا غير مسبوقة؛ فأسعار العقارات والأراضي منخفضة، والمنافسة الأجنبية شبه غائبة، فيما تزداد الحاجة إلى الخدمات الأساسية من صحة وبناء وطاقة واتصالات وتجارة غذائية. يضاف إلى ذلك مرونة بعض السلطات المحلية التي تسهّل إجراءات تأسيس المشاريع.
لكن هذه الفرص تبقى محفوفة بالمخاطر وتصطدم بواقع قاسٍ: بيئة قانونية غائبة لا توفر الحماية لرأس المال، وانعدام الثقة المجتمعية في مناطق شهدت توترات طائفية أو عمليات تهجير.
تبرز وسط هذه الظروف في محافظة درعا والمحافظات الأخرى، بعض المبادرات الفردية التي يقودها أبناء المنطقة، مشاريع صغيرة مثل: معامل البلوك، والكونسروة، ومزارع الأبقار، ومحال الصيانة والمدارس والمعاهد الخاصّة، والتي تحاول أن تنعش الاقتصاد المحلي بخطواتٍ متواضعةٍ، ولكنها دون أي ارتباطٍ سياسيٍّ مباشرٍ.
استثمارات بمليارات الدولارات
منذ مطلع عام 2025، شهدت سوريا تدفقًا استثماريًا واسع النطاق بقيادة السعودية وعدد من الدول الخليجية والأجنبية، مستهدفًا إعادة إعمار الاقتصاد السوري عقب سقوط النظام السابق ورفع العقوبات الدولية.
كان أبرزها، استضافة دمشق يومي 23 و24 تموز 2025 “منتدى الاستثمار السوري–السعودي”، بحضور وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح. وقد أسفر المنتدى عن توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم بقيمة إجمالية تتراوح بين 6 و6.4 مليار دولار، توزعت على النحو الآتي:
• 2.9 مليار دولار لمشاريع البنية التحتية والعقارات.
• 1.07 مليار دولار لتحديث قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات.
ومن المتوقع أن تسهم هذه المشاريع في خلق نحو 50,000 فرصة عمل مباشرة، بالإضافة إلى أكثر من 150,000 فرصة غير مباشرة.
قطاع الطاقة: الحصة الأكبر من الاستثمارات
وقّعت الحكومة السورية مذكرة تفاهم بقيمة 7 مليارات دولار مع شركات من قطر وتركيا والولايات المتحدة، لإنشاء محطات توليد تعمل بالتوربينات الغازية، ومزرعة طاقة شمسية بقدرة 5,000 ميغاواط.
كما تم توقيع اتفاق منفصل بقيمة مليار دولار مع شركات أمريكية لتطوير البنية التحتية لقطاع الطاقة في مناطق غرب الفرات.
كذلك حصلت الحكومة على منحة بقيمة 146 مليون دولار من البنك الدولي لترميم شبكات الكهرباء المتضررة.
وتستعد أكثر من 15 شركة عربية وأجنبية للدخول في شراكات مع شركة “عمران” الحكومية للاستثمار في قطاع الإسمنت ومواد البناء.
بدءًا من 2 آب 2025، بدأت سوريا في استيراد الغاز من أذربيجان عبر خط “كيليس” التركي بتمويل قطري، لدعم إنتاج الكهرباء وزيادة ساعات التغذية إلى نحو 10 ساعات يوميًا.
مشاريع البنية التحتية والنقل
في أوائل آب 2025، جرى توقيع عدة مذكرات تفاهم لمشاريع كبرى، أبرزها:
• تطوير مطار دمشق الدولي بقيمة 4 مليارات دولار مع شركة UCC القطرية، لرفع طاقته الاستيعابية إلى 31 مليون مسافر سنويًا.
• تنفيذ مشروع مترو دمشق باستثمار إماراتي قدره 2 مليار دولار لنقل 750 ألف راكب يوميًا.
• مشروع “أبراج دمشق” بقيمة 2 مليار دولار مع شركة UBAKO الإيطالية، يضم 20 ألف وحدة سكنية وتجارية.
• مشروع “أبراج برامكة” بقيمة 500 مليون دولار.
• مشروع “مول برامكة” بقيمة 60 مليون دولار.
• استثمارات سعودية–سورية بأكثر من 6 مليارات دولار في قطاعات العقارات، الصحة، الترفيه، والطاقة.
انتقادات وغياب الشفافية
رغم ضخامتها، واجهت الاتفاقيات الاستثمارية انتقادات واسعة، بدعوى أنها لا تلبّي الحد الأدنى من متطلبات العقود، سواء من حيث دفاتر الشروط أو آليات المناقصات، فضلًا عن غياب التفاصيل الكاملة حول طبيعة المشاريع ومواقع تنفيذها.
كما أُثيرت تساؤلات حول مواعيد بدء المشاريع وانتهائها، وافتقارها إلى الشفافية، إضافة إلى أن بعض الشركات المنفذة حديثة التأسيس أو غير معروفة، مثل شركة UBAKO الإيطالية التي أنشئت قبل ثلاث سنوات فقط برأس مال لا يتجاوز 15 ألف يورو.
كيف يرى الخبراء تلك الاستثمارات؟
الدكتور زياد الغزالي، وهو خبير اقتصادي ينحدر من درعا، قال في لقاء خاصّ مع “درعا 24”:
“أي مشروع يمكن أن يصبح واقعًا إذا استند إلى دراسات جدوى اقتصادية دقيقة، وتوفّر له التمويل الكافي، إلى جانب إدارة علمية محترفة. يجب أن تخضع المشاريع لهيئات رقابية حكومية ومستقلة تشرف فعليًا على تنفيذ العقود أو تقييمها.”
وأضاف الغزالي:
“تنفيذ المشاريع الكبرى مثل الأبراج والمولات والمترو يجب أن يتم ضمن رؤية عمرانية متكاملة للمدينة، وليس بمعزل عنها. كما يجب طرح المشاريع عبر مناقصات شفافة وعادلة ومفتوحة، سواء كانت لشركات وطنية أو أجنبية، لضمان أفضل النتائج وتعزيز الثقة في بيئة الاستثمار.”
توجهات الحكومة الانتقالية نحو الاقتصاد
الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع وضعت منذ البداية هدف إقامة شراكات استراتيجية مع دول الخليج لتثبيت الاقتصاد الوطني. لكن هذه الطموحات ما تزال تواجه اختبارات صعبة على الأرض، ووضعه على مسار التعافي، وحثّ رجال الأعمال على الاستثمار في سوريا.
لكن هذه الطموحات الاقتصادية تواجه اختبارًا صعبًا على أرض الواقع، في ظل استمرار العنف، والانقسامات المجتمعية، وهشاشة البنية التحتية.
اقرأ أيضاً: مشاريع استثمارية جديدة، فمتى تصل إلى المناطق المتضررة؟
عوائق الاستثمار في الجنوب السوري
يصف الدكتور خالد محاميد، رجل الأعمال الذي ينحدر من درعا، في تصريح للشبكة، دعوات الاستثمار في سوريا، وتحديدًا في الجنوب، بأنها لا يمكن أن تُؤخذ بجدية، ما لم تتوفر بيئة استثمارية حقيقية قائمة على القوانين والشفافية والاستقرار.
موضحاً:
“الاستثمار لا يتم فقط بالدعوات. نريد قوانين واضحة وعدالة تحمي رأس المال. الإمارات مثال حي: فيها أكثر من 200 جنسية تشتغل وتستثمر رغم التكاليف العالية، لكن فيه نظام وثقة”.
ويؤكد المحاميد أن الوضع الأمني غير المستقر وانتشار السلاح والفوضى كفيل بإبعاد أي مستثمر، حتى من أبناء المنطقة أنفسهم. وينتقد إدارة البلاد: “لا تملك الخبرة الكافية في جذب الاستثمارات، ولا تفهم طبيعة المستثمر الخارجي. عليهم الاطلاع على تجارب الأردن، تركيا، والإمارات.”.
كما يشير إلى أن البنية التحتية في الجنوب لا تزال غير مؤهلة، مع استمرار مشكلات الكهرباء والمياه والطرقات والاتصالات، خاتمًا بالقول:
“في أسبوع واحد فقط، مبيعات الأراضي في دبي بلغت ستة مليارات دولار، تحصّل الدولة منها على أربعة في المئة. هذا هو الفارق بين بيئة قانونية واضحة والفوضى التي نعيشها.”
حملة “أبشري حوران” تجمع أكثر من 44 مليون دولار لدعم مشاريع تنموية في درعا
وفي خطوة وُصفت بأنها الأكبر من نوعها في الجنوب السوري منذ سنوات، انطلقت مساء السبت من مدرج مدينة بصرى الشام حملة “أبشري حوران”، لتفتح الباب أمام موجة غير مسبوقة من التبرعات المجتمعية والرسمية. وخلال ساعات قليلة فقط، تخطّت الحملة هدفها المعلن وجمعت عشرات الملايين من الدولارات، في مشهد عكس حجم التفاعل الشعبي والرسمي مع مشاريع تنموية تستهدف إنعاش محافظة درعا في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية.
جمعت الحملة 44,325,106 دولاراً، بعد انطلاقها مساء السبت 30 آب 2025 على مدرج مدينة بصرى الشام في ريف محافظة درعا، متجاوزة الهدف المعلن البالغ 32.8 مليون دولار، وفق الموقع الرسمي للحملة. وتهدف إلى دعم مشاريع تنموية في محافظة درعا، تشمل ترميم المدارس، تأهيل المراكز الصحية، ومصادر مياه الشرب وغيرها.
أعلنت الحكومة السورية تقديم 10 ملايين دولار دعمًا للحملة، وذلك خلال فعالية الافتتاح، وأكد وزير المالية يسر برنية أن الحكومة ستُسهم بـ20 سنتًا عن كل دولار يتم التبرع به، في إطار شراكة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.
اقرأ أيضاً: حملة “أبشري حوران” تكشف نتائجها وحجم التبرعات.
وشهدت الحملة مساهمات بارزة من رجال الأعمال من أبناء درعا، حيث تبرع:
- موفق قداح: 10 ملايين دولار.
- خالد المحاميد: مليون و200 ألف دولار.
- عبد الرحمن معروف: مليون دولار.
- رمضان مشمش: مليون دولار.
- شركة الفؤاد للحوالات والصرافة ممثلة بـ فؤاد وفادي مصطفى أبازيد: مليون دولار.
وأكد محافظ درعا أنور الزعبي أن التبرعات المجتمعية تشكل ركيزة أساسية لدعم مشاريع الحملة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية والطاقة البديلة، مشيرًا إلى أن الحملة تسعى لإشراك جميع أبناء المحافظة في عملية إعادة الإعمار.
رغم التحديات، لا يزال الأمل قائمًا في تحويل هذه الاستثمارات إلى فرصة لإعادة الإعمار، شرط أن تُدار بشفافية ورقابة مستقلة، وتُربط برؤية اقتصادية وطنية واضحة، حيث يقف الاقتصاد السوري اليوم يقف بين خيارين: فرصة حقيقية للتعافي عبر شراكات عادلة ومستدامة أو خطر تكرار الفشل إذا بقي غياب الشفافية والقانون سيد الموقف. وفي الجنوب السوري تحديدًا، يبقى الدور الأبرز للمبادرات المحلية والمغتربين، القادرين على دعم منطقتهم وبناء مشاريع صغيرة–متوسطة أكثر واقعية، في انتظار أن تنضج بيئة استثمارية وطنية آمنة ومتكاملة.
الرابط: https://daraa24.org/?p=53829