بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، كان أول ما طالب به سكّان محافظة درعا هو العدالة والمحاسبة. دفعت درعا التي كانت الشرارة الأولى للثورة في العام 2011، ثمناً باهظاً من القمع والدمار والتهجير، وما زالت حتى اليوم تبحث عن إنصافٍ حقيقي يعيد للضحايا حقوقهم ويضع حدّاً للإفلات من العقاب.
وبينما تتجه البلاد نحو بناء مؤسسات جديدة وتثبيت أسس المصالحة الوطنية، بدأت ملامح العدالة الانتقالية بالظهور، سواء عبر الإطار القانوني الذي تمثله الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، أو عبر المسار الميداني المتمثل في القبض على عددٍ من المتورطين في الانتهاكات، ولكن يبدو أن الطريق ما زال طويلاً، حيث فتح ملفات الجرائم وتحقيق المحاسبة الشاملة يتطلّب جهداً منظّماً وإرادة حقيقية.
“العدالة تحتاج إلى وعي وتوثيق”
أكد المحامي سليمان القرفان، رئيس فرع نقابة المحامين في درعا، في مقابلة خاصّة مع درعا 24 بأن العدالة الانتقالية لا يمكن إنجازها بين يوم وليلة، فهو “مسار يحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ كبيرَين”.
وأوضح أن النقابة، تنسّق حالياً مع مجلس المحافظة والمؤسسات المعنية لافتتاح مكاتب خاصة لتوثيق الانتهاكات في قطاعات محافظة درعا الستة، بحيث يُصار إلى جمع قاعدة بيانات دقيقة تُقدَّم لاحقاً إلى هيئة العدالة الانتقالية، فور انطلاق عملها بشكل رسمي. معرباً عن أمله أن تُنشأ محكمة خاصة بكل محافظة تُعنى بملفات العدالة الانتقالية.
وأضاف أن العمل يجري أيضاً على نشر الوعي بمفهوم العدالة الانتقالية:
“تم الاتفاق على الاستعانة بخبراء دوليين لتعريف المجتمع بمفهوم العدالة الانتقالية، من المقرر أن تستضيف نقابة المحامين أحد الخبراء الدوليين المتخصصين لعقد سلسلة من الندوات والمحاضرات حول هذا الموضوع، بهدف تأهيل الكوادر المحلية وتعريف المجتمع بجوانبه المختلفة”.
مؤكداً أن النقابة، أسوة بباقي المؤسسات، تعمل على نشر ثقافة العدالة الانتقالية وتعريف الناس بمفهومها الشامل، وتسليط الضوء على تجارب الدول التي شهدت نزاعات مشابهة لسوريا، مثل كيفية التعامل مع ملفات الشهداء والمعتقلين والمختفين قسرياً، وسبل تعويض ذويهم واسترداد الممتلكات المتضررة بفعل الدمار الممنهج.
وأشار نقيب المحامين في درعا، إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن العدالة الانتقالية تقتصر على المحاسبة فقط، “في حين أنها تشمل جوانب متعددة مثل جبر الضرر، وتخليد الذكرى، وردّ الحقوق إلى أصحابها”، موضحاً أن هذه الجوانب جميعها تقع ضمن إطار العدالة الانتقالية.
القبض على مجرمين وصولاً لتحقيق العدالة
شهدت محافظة درعا سلسلة من الاعتقالات طالت شخصيات أمنية متورطة في جرائم جسيمة بحق أبناء المحافظة خلال السنوات الماضية. وصفت جهات حقوقية هذه الاعتقالات بأنها بداية ضرورية لإعادة الثقة بالعدالة في سوريا الجديدة.
وكان أول عملية من هذا النوع هي القبض على العميد عاطف نجيب، الرئيس الأسبق لفرع الأمن السياسي في درعا، والذي عُرف بدوره المحوري في عام 2011 بعد إشرافه على اعتقال وتعذيب أطفال المدينة، التي كانت السبب المباشر في تفجير شرارة الثورة السورية.
تم إلقاء القبض عليه في مسقط رأسه في محافظة اللاذقية، في نهاية كانون الثاني/يناير 2025، حيث تم نقله إلى دمشق للتحقيق معه بتهم تتعلق بارتكاب انتهاكات جسيمة وتعذيب وقتل مدنيين أثناء خدمته.
ومن أبرز مَن تم اعتقالهم، علاء غصاب السودي الشهير بلقب “قناص جوبر”، الذي اتُهم بارتكاب جرائم تعذيب واعتقالات عشوائية ضد المدنيين في مناطق درعا خلال فترة النظام السابق.
كما أعلنت وزارة الداخلية القبض على شادي صمادي، القيادي في ميليشيا “قوات الغيث” التابعة للفرقة الرابعة، المتهم بقيادة عمليات عسكرية في درعا البلد عام 2021 والمشاركة في تهجير المدنيين وتعذيبهم. وكذلك ألقت القبض على شادي بجبوج الملقب بـ العو وشقيقه وسام بجبوج، وكانا يتبعان للأمن العسكري وتعرّض الأول لعدة عمليات اغتيال.
وآخر من تم اعتقالهم. كان سامر أديب عمران، الذي علمت درعا 24 بالقبض عليه من مصدرين أمنيين، ويُعد عمران من أبرز الشخصيات الأمنية التي كانت تعمل في محافظة درعا، إذ كان من مرتبات فرع الأمن العسكري، وشارك في تنسيق عمليات أمنية محلية بعد اتفاقات التسوية عام 2018.
وأكد ناشطون أن عمران ضالغ في اغتيالات واعتقالات وتعذيب داخلي في مراكز احتجاز رسمية وغير رسمية، تحت إشراف العميد في الأمن العسكري في درعا، لؤي العلي الذي لا يزال متوارياً عن الأنظار، والذي بدوره يعتبر القبض عليه أحد ركائز العدالة الانتقالية السورية. وأعلنت وزارة الداخلية القبض عليه في مسقط رأسه في قرية عين البيضا في محافظة اللاذقية.
تبقى هذه الاعتقالات جزءاً محدوداً جداً من المسار الكامل للعدالة، إذ تشير بيانات صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن عدد المتورطين في الجرائم والانتهاكات من النظام السابق يبلغ نحو 16,200 شخص، بينهم 6,724 من أفراد القوات الرسمية كالجيش وأجهزة الأمن، و9,476 من القوات الرديفة التي ضمّت ميليشيات ومجموعات مسلّحة قاتلت إلى جانب النظام.
وأكدت الشبكة أن معظم هؤلاء لا يزالون خارج نطاق الملاحقة القضائية، سواء داخل البلاد أو خارجها، ما يعني أن ما جرى من عمليات توقيف حتى الآن هو مجرد بداية رمزية لمسارٍ طويل ومعقّد نحو العدالة الشاملة.
العدالة تبدأ بالاعتراف
ورغم بطء المسار، يرى كثير من أبناء درعا أن ما يجري اليوم يمثل بداية الطريق نحو عدالةٍ طال انتظارها، وأن القبض على بعض المتورطين ليس سوى الخطوة الأولى في عمليةٍ أوسع يجب أن تشمل كشف الحقيقة وتعويض المتضررين وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
تقول والدة أحد المعتقلين السابقين:
“لن أشعر أن العدالة بدأت فعلاً حتى يُقال لنا أين أولادنا المدفونين، وحتى نعرف من أمر باعتقالهم وتعذيبهم”.
تأتي هذه الكلمات من محافظة درعا التي دفعت ثمناً باهظاً، لتؤكد أن العدالة اليوم مطلباً قانونياً ضرورياً، وحقاً إنسانياً، لا يمكن تجاوزه. وكما بدأت المظاهرات في 18 آذار من هذه المحافظة، يتأمل أبناء درعا أن يبدأ المسار الذي يعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويحوّل الألم إلى سلامٍ حقيقي يعترف بالحقوق وينصف أصحابها.
الرابط: https://daraa24.org/?p=54455






