معركةُ المذخر في ذكراها الـ 79، يومَ طُرد الفرنسيون من أرض حوران
موقع ثكنة المذخر عبر صورة جوية منشورة لدرعا منذ العام 1932

معركةُ المذخر في ذكراها الـ 79، يومَ طُرد الفرنسيون من أرض حوران: في عام 1920، وقعت سورية وحوران تحت الانتداب الفرنسي بعد خسارة معركة ميسلون وهزيمة الحوارنة في معاركهم ضد الفرنسيين. وعانت حوران مثل باقي المحافظات السورية، من وطأة الاحتلال، حيث فُرضت الضرائب وتم نزع السلاح من أيدي الرجال واعتقال المناضلين.

وفي عام 1946، تحرّرتْ حوران وسورية من الاحتلال الفرنسي. وخلال الفترة بين الاحتلال والتحرير، قاوم أهل حوران بشكل مستمر للتخلص من المُستعمر. وشهدت هذه الفترة العديد من المعارك، وسقط العديد من الشهداء. وسطّر الشعراء الأبيات التراثية في وصف التضحيات التي قُدمت في سبيل الحرية والكرامة. من بين هذه المعارك كانت “معركة المذخر”، والتي تعتبر واحدة من أهم معارك النضال الحوراني في التاريخ المعاصر.

ما هو المذخر، وأين يقع؟

«المذخر» هو الموقع الذي كان يُستخدم كثكنة عسكرية للقوات الفرنسية أيام الاحتلال. ويعود تاريخ تأسيسه إلى الوجود العثماني في سورية، حيث شُيّدوه حينها كثكنة عسكرية داخلها بناء، سقفه جملوني مصنوع من القرميد، ولا يزال هذا البناء قائمًا حتى اليوم. بعد انسحاب العثمانيين من سورية، تمركز الفرنسيون في الموقع وأضافوا إليه مبانٍ ومستودعات وخنادق، وعززوا تحصيناته.

تمكن الباحث المختص في تاريخ حوران “مهند المسالمة” من تحديد موقع ثكنة المذخر عبر صورة جوية منشورة لدرعا منذ العام 1932، بعد أن كان الموقع شبه مجهول للكثيرين قبل ذلك. حيث تقع غرب حي السحاري بمدينة درعا، على الضفة الشمالية لوادي الزيدي، عند انعطاف الوادي من الجنوب باتجاه الغرب. 

تحدثت شبكة درعا 24 إلى الباحث “المسالمة”، الذي ينحدر من درعا البلد، ويُقيم اليوم في الأردن، ويبحث في تاريخ حوران وشخصيتها البارزة، وأوضح في حديثه بأن تسمية المذخر جاءت من كلمة الذخيرة، لأن الموقع كان لتخزين الأسلحة وتجمع للقوات العسكرية، وأنه كان يحتوي على مستودعات الذخيرة والأسلحة والمباني الإدارية، بالإضافة إلى أنه كان محصّناً بالجنود والمعدات العسكرية.

وأضاف: “المذخر هو الاسم الشائع محليًا، وأما اسمها فهو (الثكنة الرشادي)” نسبة للسلطان العثماني محمد الخامس رشاد بن عبد المجيد”.

اضطرابات ما قبل معركة المذخر

 في التاسع من أيار عام 1945، كانت الآمال في حوران معقودة على أن تقلص فرنسا من تواجدها العسكري بعد انتصار دول الحلفاء وهزيمة ألمانيا، لكن الأخبار عن وصول تعزيزات فرنسية إلى المذخر، أثار ردود فعل كبيرة لدى الأهالي. وتزامنًا مع هذا، شهدت حوران وبقية المناطق موجة من المظاهرات والاضطرابات احتجاجاً على الممارسات الفرنسية، وفي التاسع عشر من أيار من ذات العام، نُظّم إضراب عام في درعا شارك فيه الجميع من تجار وطلاب، وأغلقت المؤسسات الحكومية أبوابها.

وفي اليوم الثامن عشر من أيار، خرجت مظاهرة تحمل الأعلام، وتوجهت من درعا القديمة (البلد) إلى درعا الجديدة (المحطة)، وحيا المحافظ المتظاهرين رداً على هتافاتهم، ثم قصدتْ الجموع قيادة الدرك للتطوع هناك، فأطلق خلال هذه المظاهرة رئيس مصلحة الهاتف – وهو فرنسي – ثلاث رصاصات على النائب مزيد المحاميد الذي كان يتصدر الجموع، ولكن لم يُصب النائب بأذى.

وإلى جانب التوتر في حوران، اشتعلت فتيلة الثورة وغضبت حوران بعد اعتقال النائب محمد المفلح الزعبي وابنه منصور، الذي كان في السابعة من عمره فقط، وأخيه محمود، أثناء توجههم من اليادودة إلى درعا لمقابلة المحافظ، فانتفضت اليادودة دعمًا لشيخها، وثارتْ قرى حوران وعشائرها نصرةً لنائبها.

وفي الثالث والعشرين من شهر أيار، أعلن أحمد جمعة المسالمة استعداده للقتال في سبيل حرية حوران والوطن، ومعه مائة فارس من عشيرة المسالمة، بينهم خمسون خيّال، مؤكدًا استعدادهم لخوض أي معركة ضد الاستعمار الفرنسي.

الاستعدادات للمعركة وأحداثها

في الثامن والعشرين من أيار عام 1945، كان أبناء حوران على أُهبة الاستعداد للمعركة، مصممين على مقاومة الاحتلال حتى رحيل آخر جندي فرنسي من أراضيهم. تدفق المتطوعون من كافة أرجاء درعا، وتجمعت الحشود، حيث أتى أهالي درعا القديمة (درعا البلد) مسلحين بالبنادق والقنابل والرشاشات. حتى المحافظ حمل السلاح والنائب مزيد المحاميد حمل رشاشاً. وتقدمت مجموعة من 300 فارس من عشيرة الزعبية، مزودين بأسلحتهم الحربية، معربين عن رغبتهم في التطوع والانضمام للقتال. وشهدت درعا مظاهرة كبيرة مسلحة ومنظمة، حيث ردد المتظاهرون شعارات تندد بالاستعمار(أ).

في نفس اليوم، في 28 أيار، أعلن زعيم منطقة بصرى الشام، مصطفى بك المقداد، عن إضراب تجار مدينة بصرى الشام كافة، واستعداد رجالها للتطوع للقتال. تجمهر الناس في مظاهرة حاملين السلاح، يهتفون بسقوط الاستعمار، ويدعون لتحرير البلاد، واستعدوا للانطلاق نحو درعا بالقطار(ق).

وجرت أحداث المعركة بالتزامن مع أحداث معركة أخرى انطلقت في إزرع)، حيث اتجه الثوار والأهالي نحو المذخر مركز الحامية الفرنسية بدرعا من جهة الشرق، ومن مدينة بصرى الشام مروراً ببلدة معربة ثم قرية غصم والجيزة، إلى درعا.

تحصن الفرنسيون في ثلاثة مواقع، بعد أن حاصرهم الثوار من كل جهات وتجمهر الحوارنة قادمين من جميع أنحائها وقراها إلى موقع المعركة، الموقع الأول: مكتب كورو، الموقع الثاني: كنيسة الراهبات، والموقع الثالث: الثكنة الرشادية (المذخر)، والتي تقع جميعها ضمن منطقة واحدة.

بتاريخ 28 من أيار قطع المجاهد أحمد المفلح الزعبي، الماء عن المذخر التي كانت تشرب من مياه اليادودة. وفي اليوم التالي، بدأ الثوار بالهجوم من جهة الشرق على الثكنة، وتم تبادل إطلاق النار الكثيف بين الثوار والعساكر الفرنسيين، وعلى أثره استشهد كل من دهش المقداد وغالب المقداد(ب)، بعد أن تلقى أحدهم رصاصة في رأسه والآخر رصاصة في صدره، وخسر الفرنسيون ضابطين في الهجوم الأول للثوار، أحدهم فرنسي والآخر من أصل سوري و35 جريحا. 

استمر القتال، ليقوم محمد عقلة الميدان المقداد (من قرية غصم) بسحب جثة الشهيدين بتغطية من حسن حسين المقداد – الذي وصف بأنه دقيق الرماية – وبعد التغطية أردى حسن المقداد ثلاثة جنود فرنسيين قتلى وأصيب محمد فيصل المقداد (أبو اعمر)، الذي قيل فيه (لا يُعرف قائل هذه الكلمات، وهي من التراث المتداول على الألسنة في حوران):

نوينا نهد المذخر.. وما ظن الموت ينحينا        وابو اعمر يوم تقشمر.. مثل عنتر يا زيناه
أحمد المفلح الزعبي من بلدة اليادودة في الريف الغربي

حاصر المناضل أحمد المفلح الزعبي – الذي كان يقود مجموعة من شباب حوران – الدار التي يُقيم فيها الملازم كورو وقاموا باقتحامها، وأخذ ما فيها من ممتلكات(ج)، لينحسب الفرنسيون نحو الحامية الفرنسية، ويشتد الحصار على المذخر. واستفاد الثوار بشكل كبير من الذخائر والأسلحة التي حصلوا عليها من معركة إزرع، التي سقطت فيها الحامية الفرنسية بشكل سريع، فاقتحموها وحصلوا على الأسلحة منها واستخدموها خلال القتال في درعا. 

استمر هجوم الثوار، وقاوم قائد الحامية الفرنسية – وهو الملازم كورو-، مقاومة عنيفة، واستمر الحصار ثلاثة أيام متوالية، وشددوا الحصار، وعندها لم يجد قائد الحامية العسكرية الملازم (كورو) إلا أن ينسحب مع قواته باتجاه دمشق إلى أقرب موقع عسكري فرنسي، وقد وهنت عزيمته بعد أن شاهد قوة الثوار وبسالتهم، وعرف بأن الحامية في إزرع قد استسلمت.

أشعل عناصر الحامية النار بالذخيرة، لإيهام الثوار ببقاء الفرنسيين في الثكنة. ولكن الثوار كانوا لهم بالمرصاد واستطاعوا قتل العديد من جنود الحامية وضباطها، وإلقاء القبض على الملازم (كورو) قائد الحامية وبعض من كان معه في إزرع، أثناء هروبه ، واقتادهم علي سالم إسماعيل الحريري مكبلين إلى بيت عمه الشيخ محمد خير الحريري في الشيخ مسكين، وقام الشيخ الحريري بتسليمهم للقوات البريطانية بحضور محافظ حوران حيدر مردم وقائم مقام إزرع حسن الطباع.

يشير الباحث مهند المسالمة: “كانت أهمية معركة المذخر، أنها أجلت القوات الفرنسية عن أرض حوران، ولم يبقَ فيها ولا جندي واحد، لتكون بذلك أول محافظة في سورية تتحرر من الاستعمار الفرنسي أي قبل عشرة أشهر من جلاء آخر جندي فرنسي من سورية”. 

ضحايا معركة المذخر

راح ضحية المعركة ستة شهداء  و60 جريحاً من الثوار، وهم:

  • 1- غالب صباح المقداد (بصرى الشام)
  • 2- دهش نايف المقداد (بصرى الشام)
  • 3- إبراهيم عقلة البرماوي (مدينة درعا).
  • 4- علي إرشيد المسالمة أبو إرشيد (مدينة درعا).
  • 5- محمد شتيوي إلياس (مدينة درعا).
  • 6-محمد فيصل المقداد(قرية غصم).. توفي متأثر بجراحه.

معركة المذخر في ذاكرة حوران

تحدثت شبكة درعا 24 في هذا التقرير مع السيد محمد مزيد المسالمة، والذي كان والده المرحوم مزيد جمعة المسالمة، أحد المشاركين في المعركة، يقول: “سمعت عن والدي، بعض التفاصيل عن المعركة التي كان أحد أبطالها، ذكر فيها يوم استشهاد البرماوي ورفاقه، وهم بالقرب منه، على يد أحد الجنود الفرنسيين كان متمترسًا، على ظهر الكنيسة القريبة من المذخر، وأطلق الجندي النار على الشهداء الثلاث، إبراهيم البرماوي، ودهش المقداد، وغالب المقداد، وأرداهم قتلى”. 

ويكمل قائلًا: “كانت الكنيسة في أرض خالية من البناء، والجندي الفرنسي في مكان عالٍ على ظهر الكنيسة، مما أكسب الجندي الفرنسي  أفضلية، حيث يستطيع كشف أي شخص يقترب منه، واستمر بإطلاق النار والتحصّن داخل الكنيسة، حتّى استطاع أحد رجال عشائر البدو المشاركين في المعركة، من الاقتراب منه ليلًا وإطلاق الرصاص باتجاهه، فصعد الحوارنة على ظهر الكنيسة ليجدوه مقتولًا”.

إقرأ أيضاً: تاريخ صناعة البسط والسجاد والمخدات في حوران

كما بقيت بندقية الملازم كورو في مضافة الحاج موسى عقلة البرماوي، وهو أخو الشهيد إبراهيم عقلة البرماوي، لسنوات عديدة، إلى أن تم نقلها فيما بعد إلى المتحف الحربي في دمشق. وقد تداول الأهالي بعض القصائد الشعبية، التي تذكر بعض ماجرى في هذه المعركة، ومنها أبيات للشاعر علي عمر أبو شلفة الصمادي من قرية صماد شرقي درعا، وهي قصيدة طويلة:

وبنهدو مثل الاحرار.. كواسر بالبرية
وعجيش فرنسا الجبار.. دبابة ومدفعية
والمذخر اصبح دمار..سلم بالمية مية
ونلنا اروع انتصار.. ويوم المذخر بنعدي
ويوم المذخر بالأيام… اروع يوم بسورية
وبحوران ام الأيتام… وبفعل الحربجية
خلى اللحم كوام كوام.. من جيوش الإفرنسية
وعذرعاه من بصرى الشام.. فزعت جحافل تحدي

أُقيم نصب تذكاري لمعركة المذخر في بصرى الشام، في وسط ساحة القلعة، وهذا النُصب ما زال موجودًا حتّى الآن، ونُقش عليه أسماء الشهداء الثلاث الذين سقطوا في أول يوم من المعركة وحصار الثكنة الفرنسية، كما تم تسمية أحد شوارع درعا باسم الشهيد البرماوي.

اشتُهِرَ في بصرى الشام حجر “طروش الناصر”، تلك العجوز المسكينة، أم الشهيد “دهش المقداد”، الذي استُشهِد في معركة المذخر. جلست هذه العجوز كل يوم على نفس الحجر في مدخل المدينة بجانب الباب النبطي، وهي تنتظر عودة أبنائها، دهش وأخويه، الذين طاردهم الاستعمار، وأحزنتْ حالتها سكان المدينة، وماتت وهي تنتظر…

المصادر:

  • أ-صحيفة ألف باء- دمشق العدد 7034الصادر يوم الاثنين الثامن والعشرين من أيار عام 1945م.
  • ب- هواش (محمد)، تكون جمهورية سورية والانتداب، عام 2005 م، صـ 358 .  ‏
  • ي- مذكرات محمد سرور زين العابدين، جزء(1)، ص145.
  • ق-صحيفة ألف باء- دمشق العدد 7034 الصادر يوم الاثنين الثامن والعشرين من أيار عام 1945م.
  • ج-محمود مصطفى، قرى وأنساب حوران، ص 63

الكاتب: صهيب المقداد، باحث في التراث

الرابط: https://daraa24.org/?p=40569

Similar Posts