حين صدحت أولى الهتافات في درعا يوم 18 آذار 2011، لم يكن أحد يتوقّع أن تنزلق البلاد، وخاصة الجنوب، إلى هذا القدر من التعقيد والفوضى. سنوات من الحرب تركت جراحًا مفتوحة، تغيّرت خلالها ملامح المجتمعات، وسقط عشرات الآلاف من الضحايا، وتشكّلت فصائل متعدّدة اختلطت فيها حسابات الداخل بتدخّلات الخارج.
اليوم، وبعد إعلان سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024 وتسلّم إدارة جديدة زمام الحكم، يعود السؤال الملحّ إلى الواجهة: هل يستطيع الجنوب استعادة توازنه الأمني؟ أم أن أوجاع الماضي ستبقى حاضرة، وتعيد إنتاج الصراع بأشكال مختلفة؟
من مجموعات صغيرة إلى فصائل متنازعة
مع انزلاق البلاد إلى العمل المسلّح، بدأت تظهر في درعا تشكيلات محلية هدفها الأساسي كان حماية المتظاهرين وتأمين الأحياء من اقتحامات الأجهزة الأمنية. لم تكن هذه المجموعات تملك قيادة موحّدة، ولا مشروعًا سياسيًا واضحًا، بل كانت مبادرات مشتتة تعتمد على ما توفر من سلاح خفيف.
وخلال فترة قصيرة، تحوّلت هذه التشكيلات إلى فصائل ذات طابع مناطقي أو عشائري، وانخرطت في شبكة من الولاءات المرتبطة بمصادر الدعم الخارجية، سواء كانت دولًا أو أفرادًا. ومع توسّع رقعة الصراع، وجدت هذه الفصائل نفسها أمام تحديات تفوق إمكاناتها، أبرزها دخول تنظيمات عابرة للحدود مثل “جبهة النصرة” و”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، التي أعادت رسم المشهد، وغيّرت قواعد اللعبة بالكامل.

جبهة النصرة: تمدّد مدروس وسط الفوضى
منذ دخولها إلى الجنوب السوري أواخر عام 2012، بدت جبهة النصرة وكأنها تتحرّك وفق استراتيجية واضحة لبسط النفوذ، لا مجرد تنظيم عابر للحدود استغل لحظة فراغ. استغلت نقاط ضعف الفصائل المحلية، من غياب التنسيق إلى تصاعد النزاعات الداخلية، ووجدت في الفوضى الأمنية التي رافقت توسّع المواجهات مع النظام فرصة مثالية للتمركز.
تمركزت في البداية في ريف درعا الغربي، وشيئًا فشيئًا تحوّلت بلدات مثل سحم الجولان وجلين وحيط ونوى إلى قواعد رئيسية لنشاطها العسكري والدعوي. اعتمدت على خطاب ديني صارم، ووفّرت دعمًا ماليًا لبعض الكتائب المحلية، مقابل فرض شروطها العقائدية والتنظيمية.
ومع الوقت، لم يقتصر حضورها على أبناء المنطقة فقط، بل استقطبت مقاتلين من خارج درعا، وحتى من دول مجاورة، ما وسّع من طيف نفوذها وعزّز مكانتها كقوة أمر واقع في مناطق واسعة من الجنوب.
يقول “أبو محمد”، أحد أبناء بلدة سحم الجولان:
“في البداية لم نكن نعرف ما هدفهم. قدموا مساعدات، وكانوا يقاتلون النظام، لكن بعد بضعة أشهر بدأوا بفرض قوانينهم: ممنوع التدخين، ممنوع الموسيقى، وحتى طريقة اللباس تغيّرت.”
لم تبدأ جبهة النصرة تمدّدها من بوابة العنف، بل اعتمدت في البداية على كسب الحاضنة الشعبية، وتفكيك الروابط بين الفصائل المحلية. قدّمت نفسها كقوة منضبطة تقاتل النظام وتُحسن توزيع الموارد، ما جذب بعض الكتائب الصغيرة التي قبلت دعمها المالي مقابل شروط تنظيمية وعقائدية. لكنها لم تستطع الحفاظ على هذا التوازن طويلًا.
ورغم أن التنسيق المؤقت بينها وبين عدد من فصائل الجيش الحر حدث في بعض المعارك ضد جيش النظام السابق، إلا أن التباين العقائدي والمشروع السياسي المختلف سرعان ما دفع الأمور نحو التصادم.
في صيف 2015، اندلعت اشتباكات دامية في بلدة حيط، بين الجبهة وفصائل محلية، خلّفت قتلى من الطرفين، وكانت تلك المواجهة بداية النهاية لوجود النصرة في المنطقة، بل وفي عموم محافظة درعا.
يقول “أبو البراء”، قيادي سابق في أحد فصائل الجيش الحر بريف درعا الغربي:
“علاقتنا بجبهة النصرة كانت اضطرارًا، لا خيارًا. قاتلنا معهم ضد جيش النظام السابق، لكننا لم نكن نثق بهم. مشروعهم لم يكن سوريًا، ولم يكن هدفهم يقتصر على إسقاط النظام، بل كانوا يسعون لفرض فكرهم على الجميع.”
ورغم النفوذ الواسع الذي راكمته الجبهة خلال سنوات تمددها، لم يصمد مشروعها أمام الرفض الشعبي المتزايد، ولا أمام الاشتباكات المتكررة مع الفصائل الأخرى. ومع الوقت، تقلّص وجودها إلى مجموعات محدودة، قبل أن يغادر من تبقّى من عناصرها إلى إدلب ضمن اتفاقات التهجير في عام 2018.
هناك، التحقوا بهيئة تحرير الشام، التي تأسست في 28 كانون الثاني/يناير 2017 إثر اندماج عدد من الفصائل، أبرزها جبهة فتح الشام (الاسم الجديد للنصرة بعد فك ارتباطها بالقاعدة)، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنة، ولواء الحق، وحركة نور الدين الزنكي.
ورثت الهيئة مشروع النصرة العقائدي والتنظيمي، وتحولت لاحقًا إلى الفاعل الأقوى في الشمال السوري، وربما الجهة الأكثر تأثيرًا في ترتيبات ما بعد النظام. أما الجنوب، فقد طوى صفحة النصرة، لكنه لم ينسَ أثرها، الذي بقي حاضرًا في الذاكرة الجماعية كتجربة مريرة يصعب محوها.

تنظيم الدولة الإسلامية (داعش): التسلّل بصمت وفرض السطوة بالقوة
في الوقت الذي كانت فيه الأنظار محصورة بصراع الفصائل المحلية مع جيش النظام في الجنوب السوري، كان تنظيم “داعش” يشق طريقه بصمت، بعيدًا عن الضوء، عبر واجهات محلية تبنّت فكره تدريجيًا، ثم أعلنت ولاءها له علنًا.
أبرز تلك الواجهات كان “لواء شهداء اليرموك”، الذي خاض معارك ضارية مع جبهة النصرة عام 2015 في منطقة حوض اليرموك، قبل أن يجد نفسه معزولًا عن الحاضنة الشعبية، ومحاصرًا من خصومه المحليين. وفي ظلّ هذا التراجع، أعلن مبايعته لتنظيم داعش أواخر العام نفسه، في خطوة مثّلت تحوّلًا خطيرًا في الخارطة العسكرية للجنوب.
ومع بداية عام 2016، التحقت به “حركة المثنى الإسلامية”، التي كانت قد فقدت مناطق نفوذها في درعا البلد والريف الشرقي بعد معارك عنيفة مع فصائل المعارضة، من ضمنها النصرة. جاء هذا الالتحاق تتويجًا لعملية اندماج عسكري وتنظيمي، أسفر عن إعلان تشكيل فصيل جديد باسم “جيش خالد بن الوليد”، ليصبح الممثل الرسمي لتنظيم “داعش” في الجنوب السوري.
هذا الظهور لم يكن مجرد تحوّل في التسميات، بل أعاد تشكيل ميزان القوى في المنطقة، وزاد من تعقيد المشهد، إذ أصبح الجنوب ساحة لصراع ثلاثي: الفصائل المعارضة، النصرة، وداعش، كلٌّ بمشروع مختلف، وحسابات متشابكة، وخسائر يدفع ثمنها السكان المحليون
ما إن أُعلن عن تشكيل “جيش خالد بن الوليد”، حتى بدأ التنظيم بفرض سيطرته على أجزاء واسعة من منطقة حوض اليرموك، مستوليًا على بلدات استراتيجية مثل الشجرة، وعابدين، وخلال عام 2017 على تسيل، وعدوان. تبنّى التنظيم نهجًا قمعيًا في التعامل مع الجميع، بمن فيهم المدنيون.
في البداية، حاول كسب الحاضنة الشعبية عبر توزيع المساعدات، لكن سرعان ما تكشّف وجهه الحقيقي.
يروي أحد سكان بلدة الشجرة، رفض ذكر اسمه لدواعٍ أمنية:
“في البداية لم نصدق أنهم ينتمون إلى تنظيم داعش؛ كانوا يوزّعون الخبز ويزعمون أنهم جاءوا لتطبيق الشريعة. لكن بعد بضعة أشهر، بدأوا بتنفيذ الإعدامات. علّقوا الناس على أعمدة الكهرباء، ومنعونا حتى من الكلام. أصبح الخوف خبزنا اليومي.”
فرض التنظيم قوانيناً صارمة، وأقام محاكمات شكلية، وأصدر أحكام إعدام نُفذت علنًا لترهيب الأهالي. عائلات كثيرة نزحت عن المنطقة، ومن بقي عاش في ظلّ الخوف المستمر، محاصرًا بين السلاح والعقيدة المفروضة بالقوة.
وتحوّل بين عامي 2016 و2018، إلى التهديد الأكبر في الجنوب السوري، قبل أن يتلقى ضربات كبيرة خلال حملة عسكرية واسعة شنّها جيش النظام السوري السابق في النصف الثاني من عام 2018، بدعم من الطيران الروسي، وبمساندة بعض الفصائل المحلية التي قاتلته على الأرض.
ورغم انحسار التنظيم ميدانيًا، لم يختفِ من المشهد تمامًا، فقد بقي اسمه يُستدعى في الخطاب الأمني، ويُستغل كمبرر في تنفيذ اعتقالات وعمليات تصفية، وأحيانًا في تصفية الحسابات بين القوى المحلية.
فقد انتهى التنظيم عسكريًا، لكنه ترك وراءه أثرًا ثقيلًا لا يزال حاضرًا في الذاكرة، وفي الخوف العالق في تفاصيل الحياة اليومية، وفي هشاشة الثقة بين الناس والسلاح.


إقرأ أيضاً: مقطع فيديو يُظهر تصفية عنصر أمن عام على يد تنظيم الدولة في ريف درعا الشرقي
ما بعد اتفاقية التسوية والمصالحة
بعد اتفاقات التسوية في تموز 2018، دخل الجنوب السوري مرحلة جديدة من التحولات، لم تكن أقل تعقيدًا من سنوات الحرب. فقد انتهت السيطرة العسكرية التقليدية للنظام، لكن لم تولد سلطة موحدة بديلة. توزّعت القوى بين فصائل ومجموعات محلية، بعضها احتفظ بسلاحه، وبعضها أعاد التموضع ضمن ترتيبات أمنية جديدة.
ومع مرور الوقت، برز في المشهد كيانان رئيسيان، شكّلا قطبي التأثير الأمني والعسكري: اللجنة المركزية التي تمركزت في ريف درعا الغربي، واللواء الثامن الذي بسط نفوذه في الريف الشرقي.
في المقابل، حافظت فصائل صغيرة على حضور متقطع في بعض بلدات درعا البلد والمناطق الشمالية، ضمن حالة من التوازن الهشّ، والتجاذبات المستمرة، مع ارتباط معظمها مع أحد الفصيلين الرئيسيين.
اللجنة المركزية
تشكلت اللجنة المركزية من مجموعة من الفصائل المحلية المسلحة في ريف درعا الغربي، وذلك بعد فرض اتفاق التسوية والمصالحة في تموز 2018، بدفع مباشر من روسيا وبعض القوى الغربية. جاءت اللجنة كإطار تنسيقي غير رسمي، في محاولة لتمثيل مصالح المنطقة، وضبط التوترات، ومنع عودة العمليات العسكرية، وسط واقع أمني هشّ وانعدام الثقة بين الأهالي والسلطة المركزية.
ضمّت اللجنة المركزية شخصيات بارزة، من بينها محمود البردان (أبو مرشد)، ومؤيد الأقرع (أبو حيان حيط)، وباسم الجلماوي (أبو كنان القصير)، بالإضافة إلى العقيد محمد الدهني (أبو منذر) من درعا البلد. ومنذ تشكيلها، تولّت اللجنة تنسيق العمليات الأمنية محليًا، وخوض مفاوضات مع فرع الأمن العسكري بقيادة العميد لؤي العلي، لتثبيت اتفاق التسوية الذي وُقّع عقب سيطرة النظام على الجنوب في عام 2018.
وقد لعب محمد الفريد دورًا غير معلن كحلقة وصل بين اللجنة المركزية والأمن العسكري، وساهم في ترتيب ملفات حساسة، من بينها عمليات إخراج معتقلين مقابل مبالغ مالية أو تسليم أسلحة، وهي صفقات ظلّت تُدار بعيدًا عن الأضواء، مع العميد لؤي العلي رئيس الأمن العسكري.
لكن هذا الدور ظل محلّ جدل. فبحسب مصادر ميدانية تحدّثت لـ ”درعا 24”، فإن التنسيق مع الأجهزة الأمنية، رغم فائدته الظاهرة، أثار شكوك بعض الأهالي، بعضهم اتهم اللجنة بخدمة أجندات غير معلنة أو بتسهيل تقوية نفوذ الأجهزة الأمنية في المحافظة.
برر أعضاء في اللجنة هذا التنسيق بأنه كان الخيار الوحيد لتجنّب المواجهات العسكرية وإراقة الدماء، لكن ذلك لم يمنع اتهامهم باستخدام هذا التنسيق لتصفية الخصوم وفرض واقع أمني انتقائي.
يقول أحد القادة السابقين في اللجنة (رفض الكشف عن اسمه) في تصريح لـ ”درعا 24”:
“الهدف الأساسي من اللجنة كان حماية المنطقة، لكن تصرفات بعض الأفراد داخلها شوّهت هذا الدور، وساهمت في تقويض ثقة الناس بها.”

اقرأ أيضاً: توتراً بين جهاز الأمن العام واللجنة المركزية سابقاً، في ريف درعا الغربي
اللواء الثامن: من فصيل محلي إلى قوة منظمة
في الوقت الذي كانت فيه اللجنة المركزية تفرض حضورها في الريف الغربي من محافظة درعا، كان اللواء الثامن يعزّز موقعه بثبات في الريف الشرقي، بقيادة أحمد العودة، أحد أبرز القادة العسكريين في الجنوب السوري.
تعود جذور هذا التشكيل إلى فصيل شباب السنة في مدينة بصرى الشام، تحوّل الفصيل بعد اتفاق التسوية الذي رعته روسيا في تموز/يوليو 2018، إلى قوة محلية تتبع اداريّاً للفيلق الخامس، وهو تشكيل أنشأته موسكو ليضم مقاتلي المعارضة السابقين ممن خضعوا للتسوية، إلى جانب عدد من عناصر جيش النظام السابق.
وفي عام 2021، نُقلت تبعية اللواء الثامن إلى الفرع 265 أمن عسكري، وهو جهاز رسمي تابع للنظام، لكنّه يتمتع بعلاقات وثيقة ومباشرة مع الجانب الروسي.
وفي مقابلة خاصة مع درعا 24، قال رامي الشعار، مستشار سياسي في وزارة الخارجية الروسية، إن “الهدف الاستراتيجي لروسيا لم يكن دعم استقلالية الفصائل، بل دمج المقاتلين المحليين تدريجيًا في مؤسسات الجيش والأمن، لضمان بقائهم تحت مظلة الدولة، لا خارجها”.
طوال سنوات ما بعد التسوية، ظل الجنوب يعيش حالة من الجمود القلق: اتهامات متكررة للفصائل بالتبعية للأجهزة الأمنية، وتصاعد في حوادث الاغتيال والخطف، وسط غياب مشروع سياسي واضح أو سلطة موحّدة تُنهي حالة التشظي.
هذا الواقع المعلّق، الذي ساد الجنوب لسنوات بعد اتفاق التسوية، بدا وكأنه مرشّح للاستمرار، وسط حالة إنهاك شعبي وتوازن هشّ بين الفصائل والنظام والروس. لكن تحت هذا الهدوء الظاهري، كانت تَتشكّل ملامح مرحلة جديدة، سرعان ما تفجّرت في أواخر عام 2024، مع انطلاق معركة “ردع العدوان”، التي لم تكن مجرّد هجوم عسكري، بل لحظة فاصلة أعادت رسم خريطة السيطرة، ودفعت نحو تشكّل واقع سياسي وأمني جديد في سوريا.

من سقوط النظام إلى سيطرة الإدارة الجديدة وبدء تشكيل الجيش والأمن وتوحيد الفصائل
أطلقت فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، معركة “ردع العدوان”، مستغلة تدمير إسرائيل قدرات حزب الله، وانسحاب إيران وميليشياتها من سوريا، وهي التي كانت تُشكّل العمود الفقري لصمود النظام، إلى جانب استنزاف الحرب الأوكرانية لقدرات روسيا الجوية، الداعم الرئيسي للنظام.
بدأت المعارك بهجمات منسّقة في ريف إدلب الشرقي وريف حلب الغربي، ترافقت مع اشتباكات محدودة، تبعتها انسحابات متسارعة لقوات النظام من حماة، وحمص، ودمشق، دون مقاومة تُذكر.
في الجنوب، تولّت غرفة عمليات الجنوب – التي تشكلت في 7 كانون الأول 2024 من اللواء الثامن، واللجنة المركزية، وفصائل من السويداء والقنيطرة وريف دمشق – قيادة العمليات لطرد قوات النظام والأجهزة الأمنية.
ورغم أن معظم مناطق الجنوب خرجت عن سيطرة النظام دون معارك كبيرة، إلا أن بعض البلدات في محافظة درعا شهدت مواجهات محدودة، أفضت إلى سقوط قتلى وجرحى، قبل أن تُستكمل السيطرة وتُفتح الطرق باتجاه العاصمة.
وفي خضم هذا الانهيار المتسارع، وردت أنباء عن فرار بشار الأسد وعائلته من البلاد، لتُطوى بذلك مرحلة استمرت أكثر من نصف قرن من الزمن، على حكم آل الأسد، ولتبدأ سوريا فصلاً جديدًا في تاريخها.
بعد هذه التحولات، انطلق مسار تفاوضي شامل على مستوى البلاد، أفضى إلى اتفاق يقضي بإعادة هيكلة القوات العسكرية والأمنية، ودمج الفصائل المحلية ضمن جيش وطني موحّد، وأجهزة أمن تخضع لإشراف الدولة الجديدة.
في محافظة درعا، وافقت اللجنة المركزية سريعًا على بنود الاتفاق، بينما أبدى اللواء الثامن بعض التحفّظات، خصوصًا حول شكل الدولة القادم وطبيعة الهيكلية الأمنية الجديدة.
لكن المسار تغيّر بشكل حاسم بعد مقتل بلال المصاطفة، الملقب بـ”الدروبي”، وهو قيادي سابق في الفصائل المحلية قبل اتفاق التسوية عام 2018، وكان قد انضم مؤخرًا إلى وزارة الدفاع السورية.
قُتل الدروبي خلال توتر داخلي في مدينة بصرى الشام، ما أثار غضبًا شعبيًا واسعًا، وخرجت مظاهرات تطالب بإنهاء حالة التفرد الأمني وفرض سلطة الدولة.
وعلى إثر ذلك، دخلت قوات رسمية من الجيش والأمن إلى المدينة، وثبّتت نقاطها في محيط المقرات والمفاصل الحيوية.
وتم التوصّل إلى اتفاق مع اللواء الثامن، يقضي بـسحب السلاح الثقيل والخفيف من بصرى الشام، في خطوة وُصفت بأنها تمهيد عملي لإنهاء خصوصيته العسكرية وتكريس سلطة الدولة.
حيث أُعلن حلّ اللواء الثامن رسميًا، وضمّ معظم عناصره إلى الجيش والأجهزة الأمنية ضمن هيكلية الدولة الجديدة. وبذلك، طُويت صفحة واحدة من أبرز التشكيلات التي ظهرت بعد اتفاق التسوية، وبدأت ملامح واقع جديد تتشكّل في الجنوب السوري.
السويداء: تحفظات جذرية وهوية محلية تقاوم الاندماج
في الوقت الذي كانت فيه فصائل الجنوب في درعا والقنيطرة ومناطق أخرى تعيد تشكيل مؤسساتها الأمنية والعسكرية تحت مظلة القيادة الجديدة، اختارت السويداء مسارًا مختلفًا، قائمًا على الحذر والتشبث بالقرار المحلي.
بعض الفصائل في المحافظة بقيت على مسافة من الجيش وجهاز الأمن العام، دون أن تقطع العلاقة تمامًا، لكنها لم تُبدِ رغبة في الانخراط أو منح ثقتها للمشروع الجديد. الموقف جاء أوضح ما يكون في خطاب المرجع الديني الأعلى للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، الذي قال في 17 شباط 2025 من بلدة قنوات:
“نحن لا نلتحق بمشاريع لا نعرف من يقف خلفها. كرامة الإنسان فوق كل اعتبار، ولا نقبل بدخول قوى خارجية إلى مناطقنا دون التنسيق معنا.”
كان هذا التصريح بمثابة إشارة تحذير للإدارة الجديدة، التي سارعت إلى إرسال وفود للتفاوض مع وجهاء المحافظة ومرجعياتها الدينية. إلا أن الاستجابة لم تكن يسيرة، فقد تمسّك الزعماء المحليون بثلاثة شروط رئيسية:
- استقلال القرار الأمني داخل السويداء.
- بقاء السلاح بيد أبناء المحافظة فقط.
- رفض الخضوع لأي جهاز مركزي دون ضمانات واضحة.
مصدر محلي قال لـ شبكة درعا 24: “الناس هنا يشعرون أن الدفاع عن أنفسهم مسؤوليتهم وحدهم، ولا يثقون بالإدارة الجديدة. أي جهاز أمني قادم من خارج المحافظة، أياً كانت نواياه، سيبقى غريبًا وغير موثوق.”
هذا الموقف لم يكن رد فعل آنيًّا، بل نتيجة تراكمات وتجربة محلية خاصة. فطوال سنوات، بقيت السويداء على هامش الصراع السوري، لكن في الأعوام الأخيرة، تزايدت حالات رفض الخدمة العسكرية، وتصاعد الحراك المدني، وصولًا إلى مظاهرات مطلع عام 2023، التي خرجت من قلب مدينة السويداء ضد نظام الأسد، حاملة معها تحوّلًا واضحًا في المزاج الشعبي.


اتفاق محلي في السويداء برعاية المحافظ الجديد يتضمن بنودًا أمنية وخدمية

شهدت مدينة السويداء يوم 14 تموز 2025 اجتماعًا ضمّ ممثلين عن الفاعليات المحلية ومحافظ السويداء الموفد من قبل السلطة الجديدة، تم خلاله الاتفاق على مجموعة من البنود بهدف تهدئة الأوضاع وتحسين الخدمات.
وجاء في الاتفاق:
- سحب كافة المظاهر المسلحة من الشوارع.
- تفعيل دور الشرطة المدنية والأمن الداخلي.
- منع التجاوزات على الأملاك العامة والخاصة.
- منع إطلاق النار العشوائي.
- إطلاق سراح المعتقلين على خلفية أحداث 8 كانون الثاني.
- معالجة الموقوفين الذين صدرت مذكرات توقيف بحقهم قبل 8 كانون الثاني.
- إصلاح المؤسسات العامة وإعادة تفعيلها.
- تشكيل لجنة تضم أعضاء من المجتمع المدني لمتابعة تنفيذ البنود.
- محاسبة المتورطين في الفساد الإداري والمالي.
- متابعة ملف المعتقلين المغيّبين قسرًا في دمشق.
- التأكيد على وحدة الموقف داخل المدينة.
- رفض إنشاء أي كيانات انفصالية أو مذهبية.
وقد وقع على الاتفاق عدد من الوجهاء والناشطين المحليين، في خطوة تهدف إلى تعزيز الاستقرار في السويداء بعد أشهر من التوتر والانقسام.
الجيش وجهاز الأمن العام: محاولة بناء مؤسسات من رماد الفوضى
تأسس جهاز الأمن العام والجيش السوري الجديد كخطوة طموحة نحو بناء منظومة أمنية وطنية موحّدة، بعد سنوات من الفوضى والانقسام. ورغم أن كثيرين رأوا في هذه الخطوة فرصة لاستعادة الاستقرار وهيبة الدولة، إلا أن الطريق لم يكن سهلًا؛ إذ واجه المشروع منذ بداياته تحديات عميقة تتعلق ببنيته وتركيبته، في ظل إرث طويل من غياب الثقة وتعدد الولاءات.
في الجنوب السوري، تشكّل الجهاز من خليط غير متجانس شمل عناصر سابقة في الفصائل المحلية، ومقاتلين جدد، إضافة إلى منشقين عن ميليشيات كانت تتبع للنظام. يقول أحد المنتسبين الجدد، المنحدر من اللواء الثامن ويُعرف باسم “أبو جراح”:
“العمل في الأمن العام ضمن هذه البيئة ليس سهلًا، لكنه بالنسبة لنا فرصة لنُثبت أننا أبناء هذا البلد، ونسعى لحمايته.”
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، التحق كثيرون بالجهاز بدوافع معيشية أكثر منها سياسية، خاصة بعد الإعلان عن رواتب شهرية تتراوح بين 125 و 150 دولارًا. هذا الواقع دفع بعضهم للنظر إلى الجهاز على أنه فرصة عمل، وليس بالضرورة التزامًا وطنياً.
في المقابل، يحصل عدد من العناصر المقرّبين من القيادات أو العاملين في المواقع الحساسة على رواتب تصل إلى 300 دولار أو أكثر، فيما تُمنح رواتب أعلى بكثير للقيادات الأمنية، ما يخلق فجوة في مستويات الدخل ويثير تساؤلات محلية حول معايير التعيين والتصعيد داخل هذا الكيان الجديد.
وسرعان ما بدأت علامات الخلل تظهر إلى العلن. فمشاركة شخصيات سبق اتهامها بالفساد، أو بالتورط في ملفات اغتيالات وتهريب مخدرات، أثارت استياءً واسعًا بين السكان. يقول أحد العناصر:
“اعتقدت أننا نبني شيئًا مختلفًا، لكني وجدت نفسي تحت قيادة من كنت أقاتله قبل عام. كيف يمكنني تنفيذ أوامر من لا أثق به؟”
وبحسب شهادة وثّقتها “درعا 24” لعنصر يُشار إليه بالرمز (م.ج):
“نتلقى أوامر بعدم الاقتراب من بعض الشخصيات. الأمر واضح: هؤلاء محميون. هذا يقتل ثقة الناس ويقوّض أي أمل في بناء جهاز نزيه.”
الإحباط لم يقتصر على الشارع، بل تسلل أيضًا إلى داخل الجهاز نفسه. قال أحد العناصر المنسحبين:
“ظننت أنني سأخدم مدينتي، لكنني وجدت نفسي أشارك في إعادة إنتاج كل ما كنا نحاربه.”



وكانت الترفيعات العسكرية التي صدرت مطلع عام 2025 أثارت جدلاً واسعاً، بعد تعيين عدد من المقاتلين الأجانب ضمن الجيش السوري الجديد، بينهم قياديون من هيئة تحرير الشام، في وقت تم فيه تجاهل ضباط سوريين منشقين يمتلكون خبرات أكاديمية وميدانية.
ووصف أحد هؤلاء الضباط هذا القرار بأنه “خطوة غير مدروسة” تهدد استقلالية الجيش وتُضعف مصداقيته، داعياً إلى اعتماد معايير قانونية واضحة في منح الرتب، تضمن العدالة وتعزّز الثقة بالمؤسسة العسكرية.
في هذا السياق، رصدت “درعا 24” تجاوزات ميدانية موثقة، كان أبرزها ما حدث في بلدتي العجمي وجلين بريف درعا الغربي. حيث أفاد عدد مما التقتهم، في مقابلات مصوّرة، بتعرضهم لتفتيش مهين وسوء معاملة أثناء مداهمات نفذها رتلان تابعان لجهاز الأمن العام. وأشار الأهالي إلى اختلاف واضح في السلوك بين الرتلين، فبينما تعامل أحدهما بشكل مهني ومحترم، ارتكب الآخر انتهاكات زادت من مشاعر الغضب، وأعادت إلى الأذهان سلوكيات الأجهزة الأمنية السابقة.
لم تكن هذه الشكاوى محصورة في الروايات الشخصية، ففي استطلاع رأي أجرته “درعا 24”، شارك فيه 2,670 شخصًا، وأظهر بوضوح حجم الفجوة بين المجتمع والجهاز الأمني الوليد.
فقد جاءت النتائج على النحو التالي:
· 62% قالوا: “لا يجب قبول أي عنصر له ماضٍ أمني أو إجرامي”.
· 22% طالبوا بـ”فصل أيّ منتسب يثبت تورطه سابقًا بملف أمني أو إجرامي”.
· 13% رأوا ضرورة “إخضاعهم لتدقيق أمني صارم قبل قبولهم”.
· 3% فقط اعتبروا أنه “لا مشكلة طالما يلتزمون بالقانون حاليًا”.
هذه المؤشرات جميعها تكشف أن دمج الفصائل لم يكن مجرد تحدٍ تنظيمي، بل اختبار أخلاقي في جوهره. ومع كل حادثة اعتقال تعسفي أو غطاء لأنشطة مشبوهة، تتآكل الثقة أكثر، ويغدو سؤال الناس ملحًّا: هل نعيد إنتاج ما أردنا إسقاطه؟
قال أحد المتخرجين من الدورة العسكرية الخاصة بالفرقة 40، التي استمرت 22 يوماً، إن التدريب كان جيداً وشمل تفاصيل دقيقة في استخدام السلاح، مشيراً إلى أن المعاملة من القادة كانت ممتازة، والطعام متوفّر ونظيف. في المقابل، عبّر عدد من المشاركين، ممن كانوا ضمن الفصائل المحلية قبل سقوط النظام، عن استيائهم من شرط إحضار بندقية شخصية عند الالتحاق بالدورة.
من جانبه، قال ضابط منشق سابقاً لـ “درعا 24” إن مدة 22 يوماً لا تكفي لتأهيل عنصر عسكري بشكل فعلي، متسائلاً: “ماذا يمكن أن يتعلمه المقاتل في ثلاثة أسابيع؟”.
إن ترسيخ جهاز أمني نزيه وفاعل لا يمكن أن يتحقق عبر الرواتب أو الشعارات، بل بإصلاحات جذرية، ومحاسبة شفافة، وبناء علاقة جديدة مع الناس، قوامها الاحترام والعدالة والمساءلة.
تحديات قانونية: أمن بلا قانون؟
رغم مرور أشهر على تأسيس “جهاز الأمن العام”، لا يزال الإطار القانوني الناظم لعمله غائبًا. فلا توجد حتى اليوم محكمة مدنية مستقلة مختصة بالملفات الأمنية، ولا هيئة رقابية دائمة تتابع أداء الجهاز أو تضمن احترامه للحقوق الأساسية. كما يخضع نظام التعيينات داخله، في كثير من الحالات، للمحاصصة المناطقية والولاءات الشخصية أكثر من اعتماده على معايير الكفاءة أو النزاهة.
وبحسب تقرير صادر عن منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، فإن غياب هذه البُنى القانونية يترك الجهاز عرضة للتدخلات السياسية والضغوط الفصائلية، ما يضعف استقلاليته ويقوّض فاعليته في أداء مهامه.
يُعلق قانوني سابق في إحدى المحاكم المحلية على هذا الوضع بالقول:
“تشكيل جهاز أمني دون وجود بنية قضائية حقيقية، يشبه بناء منزل دون أساس. مهما بدا متماسكًا، سينهار مع أول هزة.”
توصيات مطروحة للخروج من المأزق
في ظل هذا الواقع، اقترحت جهات حقوقية وخبراء قانونيون سلسلة خطوات يُمكن أن تُعيد التوازن وتمنح الجهاز شيئًا من المصداقية:
- إنشاء محكمة أمنية مستقلة تتكوّن من قضاة مدنيين، وتخضع لإشراف علني.
- تشكيل هيئة رقابة مدنية من أبناء المنطقة وممثلين عن منظمات حقوقية.
- اعتماد نظام تعيينات قائم على الكفاءة، مع تحقيقات شفافة في خلفيات المنتسبين.
- الاستفادة من تجارب دول أخرى، كليبيا مثلًا، والتي واجهت تحديات مشابهة في دمج الفصائل ضمن أجهزة رسمية.
إحصائيات توضيحية: من أين جاء عناصر الأمن؟
يوضح الجدول التالي التركيبة التقديرية لعناصر الجهاز الأمني الجديد في الجنوب، استنادًا إلى تقارير ميدانية وشهادات محلية جمعتها “درعا 24”:
| الخلفية | النسبة المئوية |
| فصائل محلية سابقة (بما فيها الإسلامية والمتطرفة) | 60% |
| مدنيون ومتطوعون جدد ومنهم ممن كانوا في مليشيات النظام السابق، وممن كانوا من تجار المخدرات | 40% |
مقارنة سريعة: بين الماضي والحاضر
لفهم ما تغير – أو لم يتغير – بين الأجهزة السابقة وجهاز الأمن الحالي، تُبيّن المقارنة التالية بعض النقاط الجوهرية:
مقارنة بين أجهزة النظام أيام النظام والآن
| المعيار | الأمن العام بعد 2025 | أجهزة النظام قبل 2025 |
| المرجعية القانونية | ووزارة الدفاع – حكومة انتقالية | أجهزة فوق القانون |
| المحاسبة | محدودة وغير علنية | معدومة تمامًا |
| العلاقة مع السكان | مضطربة بين الثقة والريبة | قمع وتخويف |
| تركيبة العناصر | مزيج من فصائل وأفراد سابقين | طائفية ومخابراتية |
| الهيكل الإداري | غير مكتمل وغير منظم | مركزي قمعي |
الأمن العام… مشروع في مهبّ الاحتمالات
لا شك أن تشكيل “جهاز الأمن العام” في الجنوب السوري شكّل لحظة مفصلية في رحلة الانتقال من مرحلة الفوضى إلى بناء مؤسسات الدولة. لكنه، حتى الآن، لم ينجح في ترسيخ حضوره كجهة موثوقة، أو كضامن فعلي للاستقرار.
جملة من التحديات لا تزال تُعطّل هذا التحوّل:
- تجاوزات عناصر وقيادات سابقة ارتبطت أسماؤها بالفساد.
- صراعات داخلية بين القوى التي يفترض أن تتوحد ضمن الجهاز.
- ضعف البنية القانونية، وغياب المساءلة الواضحة.
- استمرار النفوذ المحلي لبعض الفصائل والمصالح التي تُعيق مركزية القرار.
هل من أمل؟
السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم ليس فقط عن قدرة الجهاز على “فرض الأمن”، بل حول قدرته على استعادة ثقة الناس، وهي المهمة الأصعب في أي مرحلة انتقالية.
إذا نجحت الحكومة الانتقالية في فتح قنوات حوار حقيقية مع المجتمع المحلي، وفي تطهير الجهاز من العناصر المتورطة في التجاوزات، وإشراك الفاعلين المدنيين في الرقابة، فربما يكون ذلك بداية لتشكيل جهاز أمني وطني، يحمي ولا يُخيف، يضبط ولا يُذل، ويبني لا يهدم.
الجنوب السوري لا يحتاج فقط إلى جهاز أمني، بل إلى عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، ليس في درعا وحدها، بل في سوريا كلّها. فدون هذا التأسيس الصادق، سيبقى كل جهاز، مهما حُسِنت نواياه، مهددًا بالانهيار أمام سؤال بسيط يطرحه كل مواطن سوري: من يحميني… ممن يحميني؟
المصادر:
- 1. تقارير ومنشورات شبكة درعا 24
- 2. مقابلات ميدانية أجراها مراسلو درعا 24 مع منتسبين في جهاز الأمن العام وقادة فصائل سابقين
- 3. تقرير معهد نيو لاينز – شباط 2025
- 4. منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
- ملاحظة: العديد من الشهادات والاقتباسات الواردة في هذا التقرير استندت إلى أحاديث مباشرة مع السكان المحليين وعناصر من جهاز الأمن والجيش.
الرابط:https://daraa24.org/?p=52568






