لا يُعدّ الدكتور محمد العمار من بلدة نمر في ريف درعا الشمالي، طبيباً له مكانته الاجتماعية وحسب، بل محاضراً وخطيباً ومعارضاً سياسياً. حصل على المركز الأول في الشهادة الثانوية في العام 1980، حيث التحق بكلية الطب البشري وتخرّج عام 1986. تأثر العمار بأفكار المفكر الإسلامي جودت سعيد (1931 – 2022)، الذي كان يدعو إلى نبذ العنف. تولى الطبيب الخطابة في أحد مساجد بلدته عام 1993 لمدة خمس سنوات، لكنه رفض التقيد بالخطبة الرسمية من وزارة الأوقاف، وأصبح تحت الرقابة الأمنية، وكان يُستدعي سنوياً من قِبل الأمن العسكري.
شارك في أنشطة سياسية متعددة، منها حضوره مؤتمراً في إسبانيا حول العنف والعمل السلمي، وبعد عودته مُنع من السفر، واستدعاه أمن الدولة. كان أيضاً من الموقعين على إعلان دمشق عام 2005 وعضواً في هيئة التنسيق الوطنية المعارضة. ومع اندلاع الثورة السورية في 18 مارس 2011، وقبلها بفترة وجيزة زادت المخابرات من مراقبته بسبب مواقفه الجريئة وصراحته في المؤتمرات والنقابات. وأجاب في شباط 2011 رئيس فرع أمن الدولة أحمد ذيب أن “الأحداث آتية آتية، والسؤال هل ستحدث؟ غلط. السؤال: متى ستحدث؟”، عند سؤاله عن إمكانية اندلاع احتجاجات. اقترح العمار عدة حلول لمنع تدهور الأمور في سوريا، كان منها: “عقد مؤتمر قطري، والدعوة لمؤتمرٍ وطنيٍّ عام، وتعليق المادة الثامنة من الدستور وإلغاء قانون 49 المتعلق بالإخوان المسلمين، وفتح ملف حماة”. لكن لم يكن هناك استجابة.
فقد اثنين من أبنائه في معتقلات النظام البائد، واُعتقل هو أكثر من خمس مرات، كان آخرها في مارس 2012 بقي بعدها في منطقته، وشارك في تأسيس مركز ثقافي ومكتبة عامة في منطقة الجيدور التي كانت تعتبر منطقة محررة، حيث كان يقدّم محاضراته الأسبوعية والتي تتعلق بالتغيير الثوري والوعي العام. كما ساهم في تأسيس تجمع باسم “تجمع الحراك الثوري” وتولى رئاسته إلا أنه توقف عن العمل لاحقاً.
تحدثت درعا 24 في مقابلةٍ خاصّةٍ مع الدكتور محمد العمار للحديث حول كل ما سبق وحول “خارطة الطريق للخروج من عنق الزجاجة في سوريا” التي طرحها منذ الشهر الرابع في 2011، وحول تجربة اعتقاله، ورؤيته للكفاح السلمي ونضاله قبل الثورة وخلالها، وما يراه اليوم بعد سقوط النظام وكيفية ضمان عدم تكرار نموذج الديكتاتورية في المستقبل السوري.
كنت من الموقعين على “إعلان دمشق” في 2005. ماذا تخبرنا حول ذلك؟ وهل تعرضت لمضايقات من قبل السلطات السورية بعده؟ وكيف أثّرتْ هذه التجربة على علاقتك بنظام البعث البائد؟
في الواقع، تجربة إعلان دمشق كانت تجربة مميزة على المستوى الوطني، علمتني الكثير وعرفتني على الكثير من القامات الوطنية المحترمة، ذات التاريخ النضالي العريق، لكنها لا أظن أنها أضافت لي شيئًا على المستوى العملي الشخصي إلا المنع من السفر، وإن أمدتني بنوع من الدعم النفسي، فقد كنت في حياتي الخاصة، وفي مجتمعي المحلي، وعلى مستوى علاقة بالمجمع الأمني الحاكم في درعا، كنت حالة متقدمة حتى بالنسبة لإعلان دمشق، فقد رفعت السقف عاليا في تعبيري عن ذاتي كمواطن سوري، وكخطيب، وكعضو في مؤتمر النقابة لاحقا، وقد قال لي رئيس قسم المعلومات في فرع الامن العسكري في السويداء بتاريخ 3 9 1994 في نهاية اللقاء، يا دكتور أنت زلمة صادق وأمين وعلى عينا، بس أنت خطير وبتخوف، ولما أجبته أن هذه العبارة غير مفهومة بالنسبة لي كيف يكون الصادق الأمين مخيفا؟ فأجاب “إذا صار الناس مثلك ما يخافوا المخابرات بتفلت البلد”، فقلت له سيادة العقيد ما تقوله يبدو لأول وهلة منطقيا، لكنه على المدى البعيد دمار البلد وخرابه، إذا كان رهان جهاز الامن على مواطن جبان جاهل فهو رهان على الخراب، يجب أن يكون رهان جهاز الأمن على موطن شجاع فهمان، فهذا قد يتعبنا ويزعجنا، لكننا نعرف أنه لا يدمر بلده، فشكرني، وودعني وداعا حسنا، لكنه رغم ذلك أرسل لمدير الأوقاف بإيقافي عن الخطابة، واعتقد أنهم تسامحوا معي على غير ما هو متوقع وسائد في تلك الأيام، لاعتبارات أهمها طبيعة الطرح الذي كنت أحمله، وكون حالتي بقيت حالة فردية، ولم يصبح لي امتداد جماهيري أو شعبي، ربما لهذا لم يكن سلوكي يثير قلقهم، ومع ذلك فقد كنت محل استدعاء كلما عملت مداخلة في النقابة، أو في مركز ثقافي، واستدعاء روتيني سنوي.
كيف كانت تجربتك في العمل ضمن هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي؟ وما هي أبرز التحديات التي واجهتها خلال عملك ضمن الهيئة؟
شكلت الهيئة إطارا جامعا للعمل الوطني، وكانت تبشر بخلق جسم سياسي يمثل ظهيرا لحركة الشارع الذي كسر جدار الخوف، وقد تعرفت فيها على طاقات وطنية لافتة أذكر الشهيد رجاء الناصر والشهيد عبد العزيز الخير وآخرين، وكانت الهيئة أول تجربة لي لإدارة عمل سياسي وطني، يتحرك في أفق يتجاوز الانتماء الفكري والطائفي والمناطقي والاثني، لكن هذه التجربة أعيقت بمعوقات كثيرة، أهمها الآصار والأغلال الفكرية لمنتسبيها، حتى على مستوى القامات المحترمة، ويبدو أن التجربة الحزبية والممارسة السياسية في ظل قانون الطوارئ خلقت حالة تخشب جعلت إدارة الاختلافات عملية متعسرة، وكان أول الانشقاقات التي حدثت لجماعة الإعلان، أقرب الشركاء المحتملين، لقد كانت لهم أسبابهم، وكنت أراها غير مبررة، وحاولت القيام بجهد فردي لرأب الصدع، دون أن أحقق نجاحا يذكر!
كانت الهيئة فرصة، كما كانت تحد لم يكتب له النجاح، وكان تعثرها مثيرا للضيق ومبعثا للمرارة، بالنسبة لي، ومما يدعو للريبة، وربما يعلل سببا لتعثرها، أن بعض منتسبيها قبلوا في وقت لاحق العمل السياسي تحت سقف أجهزة الأمن، في مجتمع لا معنى للسياسة فيه، ولم أستطع أن أتصور ذلك إلا ارتهانا لإرادة أجهزة الأمن، وأرجو ألا يكون هذا الارتهان قديما!!!
استفدت كثيرا من الناس في هيئة التنسيق، واغتنيت بتجارب أناس محترفي سياسية، وكان فيهم أناس مهذبون ولهم تاريخ نضالي محترم، لكن في الواقع، وبسبب السجن المتكرر الذي تعرضت له في العام الأول للثورة، (فقد سجنت بواقع شهر من كل شهرين طيلة العام الأول للثورة) لذلك لم أشارك في النشاطات الأساسية أو التأسيسية للهيئة، وكانت صلتي بالعالم الخارجي مشوشة ومعرفتي غير دقيقة.
اقرأ أيضاً: نصرالحريري رئيس وفد الهيئة العليا للمفاوضات، والائتلاف الوطني السوري السابق في لقاء خاص مع شبكة درعا 24
مع انطلاقة الثورة السورية في مارس 2011، دعمتَ فكرة النضال السلمي واللاعنف خلال الثورة، ما الذي كان يدفعك لتبني هذا النهج ومن أين استقيته؟
فيما يتعلق بتبني الكفاح السلمي، الكفاح السلمي بحسب معرفتي بالتاريخ، هو الطريق الوحيد الممكن للتحرر، الذي يمكن أن يحدث تحريرا ناجزا، هذا ما أثبتته التجربة التاريخية بحسب قراءاتي، والكفاح السلمي بالنسبة لي فلسفة حياة أكثر مما هو تكتيك عمل، لذلك اعترضت في البداية على الشباب المتظاهرين، الذين كانت شعاراتهم في سوريا تغلب عليها الشتيمة، رغم أنني في المعتقلات، دافعت عن حقهم في أن يقولوا رأيهم وحقهم في التظاهر السلمي بحسب الدستور عندما كنت أسأل، وفي آخر اعتقال، سألني “العقيد” عندما قلت له إنكم تصادرون حق الناس الدستوري في التظاهر السلمي، فقال: هل شعار يلعن روحك يا حافظ، شعار متظاهر سلمي؟ قلت له: ماذا عملت لمن قال ذلك؟ قال: “ماذا عملت؟”، قلت: لقد قتلته، وأنا سمعت الشتيمة ورأيت الجريمة، وسأكون بلا أخلاق إذا علقت على الشتيمة، وقد رأيت الجريمة! لقد فعلت له أقصى ما يمكن أن يفعل لإنسان! لقد قتلته! قال لي: “أنا” قلت نعم، فقال أنا، قلت نعم، وكرر ذلك فقلت له: أنت، إذا لم تكن أنت فزميلك، قبل أن تأتوا، لم يُقتل أحد ولم يكن هناك قتلى!
لكني بالمقابل قلت للمتظاهرين في أول مرة قدموني للحديث فيهم: لقد صمتم لـ 50 عامًا، أرجوكم وقد نطقتم، أن تتحدثوا عن أنفسكم وتعرفوا بها، وأن ترفعوا شعارات تعبر عنكم، وعن مطالبكم، وخياراتكم الفكرية والسياسية، الشتيمة ليست شعارًا يجدر بكم رفعه! أرجوكم كفوا عن الشتم، لكنهم يكونوا مستعدين لسماع لذلك، وتطورت الأمور بالاتجاه الذي نعلم، ودفعنا الثمن الهائل المتوقع بل الذي فاق التوقعات، وما زلنا الآن أمام التحدي نفسه، كيف نصنع سلطة تعبر عن آمال مواطنيها؟ فالسوريون الذين أسقطوا الدكتاتور أمام تحدي البناء، وهو أكبر بكثير من تحدي الهدم، إنه التحدي الحقيقي، بينما التغيير السلمي هو طريق يتم فيه البناء والهدم بطريقة متوافقة، بحيث أنك، خلال نضالك، تقوم ببناء الناس والأنفس أخلاقياً ومعرفياً وحتى جسديًا، للأسف الشديد، هذا الموضوع يتجاهله الناس حتى المسلمون والإسلاميون، الإسلاميون الذين في السلطة لا يعرفون طريقة محمد صلى الله عليه وسلم في صناعة المجتمع، صناعة المجتمع الذي يفرز سلطته الراشدة، عن طريق الإقناع. قبل ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، كان هناك طريقتان لصناعة السلطة: طريقة وراثة الملك وطريقة الغلبة أو السيف، محمد صلى الله عليه وسلم دشن أسلوبًا جديدًا في صناعة السلطة، صناعة السلطة عن طريق تغيير المجتمع.
تغيير المجتمع بالإقناع، وهذا المجتمع الذي تغير بالإقناع، هو الذي سيفرز سلطته الشرعية التي تلتزم القانون وتلتزم مصالح المجتمع في الداخل والخارج، وتمنع ظهور آلهة بشرية، كما هو الأمر على امتداد العالم الإسلامي، حيث يوجد في كل بلد رجل لا يسأل عما يفعل، ولا راد لأمره، ولا مبدل لحكمه، ولا معقب لكلماته، وهي وثنية يتعايش معها الخطاب الإسلامي، دون أن يشعر، ولا يوجد مثل هذا الوثنية إلا في عالمنا، وهي ثمرة مباشرة للإيمان بالقوة، الذي هو وثن أيضا، وابن تيمية له مقولة مهمة للحكم على السيف، يميز فيها السيف الشرعي عن السيف الجاهلي فيقول : “إذا كان السيف تحت الكتاب فهي دولة شرعية، وهو السيف الشرعي، وإذا كان السيف فوق الكتاب فهي دولة جاهلية والسيف الجاهلي”، هذان السيفان التبسا على المسلمين خلال تاريخهم بعد الراشدين!
فقد انقلب المسلمون بعد صفين على عصر النبوة وعصر الراشدين سياسيا، فالمسلمون “الشيعة” رجعوا إلى طريقة الوراثة في صناعة السلطة، ولفقوا وريثًا للنبي وسلالة، حتى وصلوا الإمام الحادي عشر الذي كان عقيماً ولم يخلّف! وحلوا المشكل بالإمام الغائب والسرداب و…. والمسلمون “السنة” سقطوا في قبضة الطواغيت، وحكم الأسر، فكانوا، كما قال الأحنف ابن قيس: “كلما ذهب هرقل، جاء هرقل”، وكلما ذهبت أسرة جاءت أختها حتى بيت الأسد ووريثهم.
فبشار لم يكن أول ديكتاتور، وعائلة الأسد لم تكن أول عائلة، نرجو أن نكون مع خلاصنا منهم، على موعد مع الحكم الرشيد على منهاج النبوة، منهاج كلمة السواء والخروج من ربوبية البشر إلى احترام إرادة الناس وعقولهم، وأن يكونوا آخر الطغاة وآخر العائلات، في تاريخ سوريا، وأن نكون في سوريا روادا في العالم العربي في صناعة ديمقراطية وفية لقيمنا وديننا كما فعل الأتراك.
ما هي “خارطة الطريق للخروج من عنق الزجاجة في سوريا”، وكيف تم التعامل معها من قبل الجهات الأمنية؟
خارطة الطريق هي تصور للحل في سوريا كما بدا لي لحظتها، أظن في 5 نيسان 2011، وكنت أعتقد أن إصلاحات سياسية حقيقة يمكن أن تجنب سوريا السيناريو السيء. وذلك من خلال اتخاذ إجراءات سياسية فورية، كتعليق العمل بالمادة ثمانية من الدستور، وإطلاق سراح الحقوقيين المعتقلين، والملوحي، وإلغاء قانون 49 لعام ثمانين الخاص بالإخوان المسلمين والدعوة لمؤتمر حوار وطني لا يستثني لوناً. يتواضع فيه السوريون على دستور وطني يفصل بين السلطات بوضوح، ووضع قانون أحزاب يسمح بالممارسة السياسية، وأشياء من هذا القبيل، ومقابل قيادة بشار الأسد لعملية الإصلاح السياسة، يعطى حق للترشح للانتخابات الرئاسية بغض النظر عن تاريخه في السلطة، وكنت أعتقد أن هذا عرض عادل. وكنت أحذر من مصائر الطغاة الذين تجنبوا المسارات التفاوضية في مواجهة إرادة الشعوب، وأذكر أني ضربت مثال القذافي ومبارك ولوران باغبو وآخرين. لقد رآها أصدقائي تمسكا غير مبرر بالأسد، ورآها أنصار الأسد هرطقة لا تغتفر.
أرسلتها لمكتب بشار الأسد، وقال لي أحدهم أنه رآها على مكتبه، وأرسلتها لمكتب العماد آصف واستدعاني للحوار حولها، في 3 – 5 – 2011، وأعطيتها للعميد وفيق ناصر لما استدعاني عند استلامه، ولما أبديت له عدم الرغبة في الحضور، قال: “أريد أن أعرف درعا من أبناء درعا الشرفاء الذين يقولون كلمتهم”، وليس ممن يأتوا ليباركوا لي، فقلت له إذا بدأتم تفكرون بهذه الطريقة يشرفني أن أجلس معكم، فهذا يعني أننا على الطريق.
ولما استدعاني ذيب زيتون أخرجها من حافظة أوراقه، وقال: “هل أنت من كتبها؟”. قلت: نعم. قال: “من أنتم؟ وماذا تمثلون؟” قلت: سيادة اللواء بمنطق الدستور أنا مواطن وأنت مواطن ورئيس الجمهورية مواطن، وبمنطق القوة، أنا صفر، وأنت رئيس جهاز أمن، لديك جيش وسجون، والرئيس لديه وزارة الداخلية والدفاع، لكن بمنطق التمثيل، لا أحد في سوريا يستطيع أن يزعم أنه يمثل أحدا، فسوريا لم تشهد انتخابات تعددية منذ خمسين عاماً! فقال مظهرا عدم رضاه: ” نعلم أن الأمريكيين أجروا دورات لبعض المثقفين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكننا لا نعرف الأسماء”. قلت: “أنا في حياتي لم أر إدانة لنظام الحكم في سوريا بهذه القوة، أنا طبيب عمري خمسون سنة، قرأت آلاف الكتب، ثم لا أعرف الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا إذا الأمريكان عملوا لي دورة! ماذا تعلّم جامعاتكم إذن؟ وماذا تدرّس مدارسكم؟ ماذا فعلتم لنظام التعليم في سوريا؟ إلى أي درجة أوصلتموه؟، وبعد رد لم يتحمله عن دورهم المقاوم، أتجاوزه تجنبا للإطالة، نادى رائد “أحمد” وأخرج ظرفا جاهزا من الحافظة فهمت لاحقا أنه أمر اعتقالي وقد أعد قبل حضوري، وقال: “خذ الدكتور إلى العميد وفيق شحادة ليناقشه وأعده إلي”. فأخذت إلى فرع الفيحاء وأوقفت قرابة الشهر ونصف.
تعرضتَ للاعتقال أكثر من مرّة، ما الدافع الرئيسي وراء اعتقالك من قِبل أجهزة النظام المخلوع الأمنية؟ وكيف كانت تجربة الإفراج عنك؟ هل كنت تتوقع الخروج في كل مرة؟
أعتقد أن الدافع وراء الاعتقال هو رغبة أجهزة الأمن في عدم انتشار هذا النموذج في النضال السياسي، فقد كانوا يعتقدون أن تورط الثورة في السلاح سيكون بداية نهايتها، ولذلك تم تجريف الشارع الثوري من كل النخب بالهجرة التي كانت تهجيرا مدروسا فيما أتصور، وقد عرضت علي الهجرة بأسلوب مغري، عرض علي أنا أهاجر إلى الأردن وسيكون هناك من يتولى إسكاني وتأمين كامل نفقاتي ونفقات أولادي (شهداء الثورة نسأل الله لهم الرحمة) في الجامعة، وأظنني لم أكن الوحيد الذي تلقى هذا العرض!
حتى في المعتقل، وفي نهاية جلسات التحقيق التي كانت تتحول لجلسات حوار مع الضباط، واستسلام المحاور تماما لمقولاتي كما حدث مع العميد صلاح حمود رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات العسكرية 292 على ما أعتقد. اعتقدت أن يطلق سرحي صباح اليوم التالي، لكنهم احتفظوا بي لليوم الــ61، وأعتقد أن خلاصة الأمر أننا ليس لدينا ما يدينك لكن لا يسرنا أن يسري هذا الخطاب في الشارع.
فيما يتعلق بتجربتي في الاعتقال، كنت متصالحًا مع اعتقالي، وكنت أشعر أنه ثمن يجب أن أؤديه، ويسرني ويرضيني، أن أقوم به، إنه شهادتي لموقفي الفكري والأخلاقي من الظلم والاستبداد، وكنت مع الشباب في السجن، أعطيهم الأمل، وأضمد جراحهم، أقصد الروحية والنفسية، وأقدم لهم الدعم، لاعتبارات تتعلق بعمري وسني ومكانتي. كنت في السجن أكثر أمنًا من الناحية النفسية مما كنت خارجه. وما كنت أفكر كثيرًا متى سأخرج في الواقع.
لم يكن التفكير في الخروج هاجسي، ربما يكون السبب أنني لم أسجن لفترات طويلة، مرة واحدة سجنت 65 يومًا، وفي اليوم 61 قلت للشباب: “غدًا سأدخل إضرابًا عن الطعام”، أصدروا قانون الستين ويطلقون سراح المعتقلين بعد ستين يوماً، فقال لي أحد الإخوة: “سوف يسيئون إليك”، قلت: “نحن في العذاب وفي السوء، ماذا سيفعلون أكثر مما يفعلون صباح اليوم الحادي والستين، أفرجوا عن دفعة كنت منهم، أثناء قراءة الأسماء، كان هناك طالب طب سنة رابعة بجامعة تشرين حلبي، أعطاني رقم هاتفه لتطمين والديه، فصرخ السجّان مرات وهو ينظر إلي: من يتكلم؟ وفي المرة الرابعة، قال الشاب: “أنا”. فقال له: “ماذا تقول؟” فقلت له: “يعطيني رقم هاتف لأتصل بوالديه”، فقال لي: “هل ستفعل؟” قلت: “طبعًا “، فقال: “طمنهم”.
المهم، كنت أشعر أنني كنت أقوم بدور، حتى داخل السجن، وأعتقد أنه كان دورًا مهمًا ونافعًا وضروريًا لي وللمعتقلين، والسجن عرّفنا على أحباب وأصدقاء، اتصل بي أشخاص كثر، ربما أربعة أو خمسة، بعد التحرير، من إدلب أو من خارج القطر، يقولون: “أنا فلان، كنت معك في السجن”. الحمد لله، يحملون ذكرى طيبة لتلك الأيام الصعبة.

كيف يمكن ضمان عدم تكرار نموذج الاستبداد والديكتاتورية في المستقبل، وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان بناء دولة تحترم الحريات والحقوق؟
فيما يتعلق بسؤالكم كيف نتجنب إعادة انتاج الطغيان؟ في الواقع هذا تحدٍّ كبير، لكننا الآن نملك الفرصة، والذين يصنعون الطاغية هم المستضعفون، ولذلك، الكرة الآن في ملعبنا، الآن لدينا رئيس سلطة تنفيذية، رئيس جمهورية يقول: “أنا خادم ولست حاكم”، فيجب أن نجتهد ونكد ونعمل على أن يبقى في موقعه الذي يراه لنفسه كموظف عند الأمة. يجب أن نساعده على تحقيق هذا الشعار، وأنا لا أشك لحظة في صدقه في هذا الشعار، لأن المثل الأعلى لكل مسلم هو نموذج الفاروق أو نموذج الصديق، وهو كمسلم أيضاً، يريد أن يرى نفسه في هذا الموقع الذي ينجيه في الدنيا وينجيه في الآخرة أيضاً.
لكن صحة الإرادات لا تكفي وحدها لإنجاز المرادات ولا بد من توفر القدرات الفنية، يجب أن نتمكن من بناء المؤسسات التي تحوّل الآمال والتطلعات للجميع بما فيها شاغل موقع رئيس الجمهورية، وهذا لا يمكن إنجازه إلا بتوفر القدرات مع الإرادات.
إن بناء المؤسسات يمكن أن يجنبنا هذا المخاض الأليم مرة ثانية، ونحن لا نحتاج أن نخترع العربة من جديد، يمكن أن نتعلم من تجارب الآخرين، تجارب الأمم، والاعتبار بالتاريخ القريب والتاريخ الحديث. إن درس التاريخ يعلمنا أن تغيير الطاغية ليس تغييراً وليس نصراً، بل يجب أن تتغير معادلة الطغيان والاستضعاف داخل الأنفس، فهذا هو التغيير الحقيقي، وقانون قول الله (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فتغيير الطغيان يتطلب تغييراً فكرياً، تغييرا في القلوب والعقول.
نحن نملك الفرصة، ولدينا الآن الأجواء التي نستطيع من خلالها أن نعبر عما لا نراه صواباً، فيجب البحث عن الأدوات والآليات التي تجعلنا شركاء في صناعة المستقبل، الذي يجب أن يُبنى على المصالح الوطنية، كما يجب أن يراعي مصالح الجمهور، ويتعامل مع صعوبات الواقع وتحدياته.
وحول سؤالك كيف نفعل ذلك أقول لقد سألت عن عظيم وما هو بعظيم وإنه ليسير لمن يسره الله له، وأعتقد أن كل مواطن سوري معني به، إنه في حدود الفرد يبدأ بنمط من العيش يتوقف عن الكذب وقول الزور، لا يشترط أن تقول الحق، وهذا غير مكلف، لكن يكفي مبدئيا ألا تقول الباطل، يكفي أن نطبق قول النبي: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.
ولكن على مستوى المجتمع لابد من بدء حياة اجتماعية نشطة تبني مؤسسات مجتمع مدني مستقلة نشطة واعية ناصحة، تفكر في البناء والتعاون على البر والتقوى رغم الاختلاف، وكذلك التفكير في حياة سياسية تعددية تمكن من استباق الخيرات والتنافس في خدمة البشر وتنمية الخير العام.
الآن بعد سقوط النظام وتحرير سوريا، ما هو برأيك التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد في هذه المرحلة الانتقالية؟
هذا سؤال مهم جدًا، ربما أهم من كل ما تحدثنا به. الآن نحن في سوريا نملك فرصة.
يمكن أن نكون كمسلمين “سنة”، وإن كان هذا التعبير بصراحة غير دقيق وغير حقيقي، يمكن أن نكون فرصة للمسلمين، ويمكن أن نكون فرصة للسوريين، ويمكن أن نكون فرصة للعالم أيضًا، وبحسب ما أتصور، فإن الإدارة الجديدة وما يقدمه رئيس الجمهورية وفريقه فيه أشياء كثيرة مهمة، تنم عن وعي بطبيعة اللحظة السياسية.
لكن شخصًا واحدًا لا يكفي للتغيير، يجب أن يحمل هذه الرؤية تيار فكري، في ختام محاضرتين لي مؤخرا، قلت: أتوجه للإخوة الذين في السلطة، رئيس الجمهورية، والنواة الصلبة خلفه، أرجوكم وأقترح عليهم أن تقوموا بقراءة تراث الأستاذ جودت سعيد.
جودت سعيد يتحدث عن الفلسفة السياسية لعصر النبوة، بينما الفلسفة السياسية بعد عصر النبوة وبعد عهد الراشدين هي الفلسفة السياسية للإمبراطورية العربية، وهي لا تختلف جوهريا، عن الفلسفة الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية، أو … وهذا نموذج في الحكم والسياسة مختلف جذريا عن النموذج الذي دشنه النبي والخلفاء الراشدون.
أرجو أن يتمكن هؤلاء الإخوة من الالتفات لهذا التراث ووضعه موضع الاهتمام ودراسته، والاستفادة من القواعد الأساسية التي يمكن أن تؤسس لرؤية جديدة للعالم، وللإسلام، وللإنسانز فانطلاقًا من المسلمات التراثية الشائعة ليس لدينا القدرة على تجاوز التحديات والتصالح مع القيم السياسية المعاصرة من أرضية قيمية خاصة، وربما نصبح كما أصبح الآخرون، فبدل أن نكون فرصة، نصبح محنة ومصيبة، فأسأل الله سبحانه وتعالى، الذي أنعم علينا بالنصر بعد أن فقدنا كل أسباب النصر، أن يمنّ علينا بالتمام، ونحن فقراء، ليس لنا القدرة على بناء عالم مختلف، وإن كنا نملك الإرادة لذلك.
الأمر المهم جدًا هو أن أسلوب الإقناع الذي جاء به الأنبياء جميعًا، وهو أسلوب تغيير ما بالأنفس، قفز المسلمون فوقه وأضاعوه. ولما اهتدى إليه الأوروبيون كوسيلة لنقل السلطة، لا تمر ضرورة عبر القتل والدمار، بل بالانتخابات وصناديق الاقتراع، لم يتمكن المسلمون من التعرف عليه باعتباره الرشد الذي أضاعوه.
تغيير المجتمعات يتم عبر تغيير القناعات، وليس عبر قتل النخب الحاكمة أو سجنها أو الانقلاب عليها، لأننا منذ موقعة صفين، من سنة 38 للهجرة، ما زال المسلمون يقتلون بعضهم، والعائلات تقتل بعضها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض.” وهذا طبعًا كان تاريخ البشر كلهم، وليس المسلمون وحدهم الذين كانوا يقتلون بعضهم. والسابقون ربما كانوا معذورين في أنهم فعلوا ذلك، لكن نحن لا عذر لنا في أن نقلدهم فيما فعلوا، لأن الله سبحانه وتعالى أرانا كيف أن أممًا تعيش بين ظهرانينا تنزع الملك ممن تشاء، وتعطي الملك لمن تشاء، وتغير حكامها دون قتل أو تخريب أو دمار، بينما العالم الإسلامي، والعالم العربي خصوصًا، بُرك دم وساحات دمار، وخلال الملحمة السورية، تغير الرؤساء الأمريكيون ثلاث مرات، وتغير الرؤساء الفرنسيون ثلاث مرات، وتغير الألمان أيضًا مرتين على الأقل، وتغير رئيس وزراء بريطانيا ثلاث أو أربع مرات، دون أن تُخرَّب بريطانيا، ودون أن يقتل الناس بعضهم، ودون أن يُبدَّدوا استثماراتهم عبر خمسين سنة، الآن، السوريون فقدوا مدخراتهم عبر الخمسين سنة الماضية. لو لم يحدث في سوريا أي خراب، مجرد هبوط العملة، فإن هذا الهبوط يعني أن السوريين فقدوا رأسمالهم بطريقة لا تُتصور، لذلك، يجب أن نفهم الأشياء، وأن نربطها ببعضها، وألا نفكر بأن إعادة الأخطاء السابقة يمكن أن ينتج صوابا، إذا كررنا نفس الأشياء، سنحصل على نفس النتائج.
الآن، السوريون أمام تحدٍّ جديد، تحدي دخول سوريا الحديثة، الديمقراطية، دولة القانون، التي تحترم التعددية، وتحترم العقائد. نسأل الله أن نكون قادرين على ذلك.
كلمات السيد رئيس الجمهورية كلمات مبشرة، لكن في تاريخ المسلمين كان علي بن أبي طالب إمامًا راشدًا بإجماع المسلمين، والمسلمون خذلوه في المعركة، ثم قتلوه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمكن رئيس الجمهورية، وأن يعيننا نحن على تجسيد ما قاله في خطابه، بأنه خادم وليس حاكمًا، أي ليس جبارًا متسلطًا.
اقرأ أيضاً: الشيخ عصمت العبسي رئيس دار العدل السابق ورئيس مجلس محافظة درعا الحالي في مقابلة خاصة مع شبكة درعا 24
الرابط: https://daraa24.org/?p=48585