بعد أربعة عشر عاماً من الحرب، يعيش السوريون اليوم على أمل إعادة بناء بلدٍ حلموا به يوماً. بلدٍ دمّرته الصواريخ والمجازر، وتفرّقت فيه العائلات بين المنافي والسجون، وبقي آلاف المعتقلين مجهولي المصير، لا يُعرف لهم قبو سجنٍ ولا حتى قبر. وبينما يكثر الحديث اليوم عن إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات، يبقى السؤال الذي يؤرق أهالي الضحايا في سوريا: هل يمكن بناء وطن بلا عدالة؟
وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، يُعدّ تحقيق العدالة الانتقالية حجر الأساس لأي عملية انتقال سياسي ناجحة، إذ لا يمكن تحقيق استقرارٍ مستدام من دون التصدي للانتهاكات السابقة وضمان عدم تكرارها. فالعدالة الانتقالية تهيئ الأرضية لنظامٍ سياسي قائمٍ على سيادة القانون والمساءلة، وتعزّز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة تقوم على التعددية والديمقراطية.

ما هي العدالة الانتقالية؟
تعرّف الأمم المتحدة العدالة الانتقالية بأنها “مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تعتمدها الدول لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أثناء فترات النزاع أو الحكم الاستبدادي، بهدف تحقيق العدالة والمساءلة والمصالحة”.
وتعتبر الطريق القانوني والمجتمعي نحو الحقيقة والإنصاف، لا نحو الانتقام. حيث تهدف إلى الاعتراف بالضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وجبر الضرر المادي والمعنوي، وإصلاح مؤسسات الدولة التي شاركت في الانتهاكات أو سكتت عنها.
وتقوم العدالة الانتقالية على أربع ركائز أساسية تشكّل منظومة متكاملة:
- كشف الحقيقة: توثيق ما حدث، وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات، والاعتراف العلني بالضحايا.
- المساءلة القضائية: محاكمة من ارتكبوا الجرائم الأشد خطورة، وضمان عدم الإفلات من العقاب.
- جبر الضرر: تعويض المتضررين ماديًا أو معنويًا، واستعادة كرامتهم في المجال العام.
- إصلاح المؤسسات: وخاصة الأمنية والقضائية، لضمان أن لا تتحوّل مجددًا إلى أدوات قمع.
لا تنفصل هذه العناصر عن بعضها؛ فالمساءلة بلا إصلاح لا تمنع تكرار الجرائم، وجبر الضرر بلا اعتراف لا يعيد الثقة، وكشف الحقيقة بلا قانون لا يصنع عدالة.
القانون كركيزة للعدالة
يُعدّ القانون هو الإطار الذي يحمي العدالة الانتقالية ويحوّلها من شعارات إلى ممارسة واقعية. وقد أكّدت الأمم المتحدة في قرارها رقم 60/147 لعام 2005 على أن “لكل ضحية انتهاك جسيم لحقوق الإنسان الحق في سبيل انتصاف فعّال يشمل الوصول إلى العدالة والتعويض وضمانات عدم التكرار”.
ويكرّس القانون الدولي الإنساني، وفق اتفاقيات جنيف لعام 1949، مبدأ المسؤولية الفردية في الجرائم الكبرى كالقتل والتعذيب والاختفاء القسري، ما يمنع التذرع بالأوامر أو الرتب العسكرية. وفي السياق السوري، يشكّل بناء إطار قانوني محلي واضح خطوة أولى لضمان المساءلة وجبر الضرر، ووضع حدّ للإفلات من العقاب.
اقرأ أيضاً: مقابلة مصورة مع رئيس فرع نقابة المحامين بدرعا، المحامي سليمان القرفان
هيئة للعدالة الانتقالية
ولا يكتمل دور القانون في العدالة الانتقالية دون وجود هيئة وطنية مستقلة تمنح هذه العملية الإطار التشغيلي والتنفيذي، وهو ما تجسده “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في سوريا”. والتي صدر مرسوم رئاسي في 17 أيار/مايو 2025، يقضي بإنشائها، لتُعنى بكشف الانتهاكات الجسيمة، ومحاسبة المسؤولين، وجبر ضرر الضحايا، وضمان عدم التكرار.
ثم في 28 آب/أغسطس 2025 صدر مرسوم بتعيين أعضاء الهيئة، حيث تضم اللجنة 13 عضواً بينهم رئيسها عبد الباسط عبد اللطيف ونائبة الرئيس زهرة نجيب البرازي، مع تكليفهم بإقرار النظام الداخلي للهيئة وتوزيع المهام التنفيذية. ورغم أن المرسوم منحه للهيئة مهلة 30 يوماً لإقرار نظامها الداخلي، إلا أن الهيئة واجهت تأخيرات في تنفيذ ذلك، ما تزال مستمرة لليوم.
أكد رئيس الهيئة أكثر من مرّة أن من بين مهامها العمل على المصالحة الوطنية والسلم الأهلي إلى جانب كشف الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر، مع التأكيد على أن دور الضحايا وأسرهم سيكون مركزياً في هذه العملية.
رحّبت العديد من الجهات الحقوقية الدولية بتشكيل هيئة العدالة الانتقالية، وعقد بعضها اجتماعات مع أعضائها، إلا أن تقارير حقوقية حذّرت من ارتباكٍ مؤسسي وتداخلٍ في الصلاحيات بين الهيئات المختلفة التي أُنشئت خلال المرحلة الانتقالية.
وفي هذا السياق، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في 9 أيلول/سبتمبر 2025 تقريرًا بعنوان «العدالة الانتقالية والسلم الأهلي: أخطاء لجنة السلم الأهلي في سوريا وضرورة تصويب المسار»، تناولت فيه العلاقة المعقّدة بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، وقدّمت قراءة نقدية لأداء لجنة السلم الأهلي المشكلة حديثًا.
يشير التقرير إلى أن اللجنة تجاوزت صلاحياتها القضائية، من خلال إصدار قرارات بالعفو والإفراج دون سند قانوني واضح، وغياب المعايير التي تنظّم عملها، ما يُهدد مبدأ استقلال القضاء ويقوّض ثقة المجتمع في مسار العدالة. كما حذّر من أن التغاضي عن حقوق الضحايا أو تغييبهم عن عملية اتخاذ القرار يرسل رسائل سلبية تشجّع على الإفلات من العقاب. وذلك في إشارة إلى العفو ومنح الأمان والحرية لفادي صقر وهو قائد مليشيا الدفاع الوطني السوري، ومتورط بجرائم.
وأكد التقرير أن تحقيق الاستقرار لا يمكن أن يتم على حساب العدالة، داعيًا إلى سنّ قانون خاص بالعدالة الانتقالية يضمن المشاركة المجتمعية ويُنسّق بين المسارات الأربعة الأساسية: المساءلة، الحقيقة، التعويضات، والإصلاح المؤسسي، بما يضمن تكامل الجهود بدلاً من تضاربها.
الطريق الطويل نحو عدالة سورية
بينما تعمل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية على وضع أسس المحاسبة وكشف الحقيقة، يسير في الوقت نفسه مسارٌ موازٍ تمثل في القبض على عدد من ضباط ورموز النظام السابق. وقد شكّلَت هذه الخطوات أولى المؤشرات العملية على أن العدالة في سوريا الجديدة تتحرك، ولو ببطء.
في كانون الثاني/يناير 2025، أعلنت السلطات عن القبض على العميد عاطف نجيب، الرئيس الأسبق لفرع الأمن السياسي في درعا، والذي يُعدّ أحد أبرز رموز المرحلة الأمنية السابقة، المتهم باعتقال وتعذيب أطفال درعا، الأمر الذي كان سبباً مباشراً بإشعال شرارة الثورة السورية عام 2011. تم توقيفه في محافظة اللاذقية، قبل أن يُنقل إلى دمشق للتحقيق معه بتهم تتعلق بجرائم قتل وتعذيب وانتهاكات لحقوق المدنيين.
وفي خطوة لاحقة، تم اعتقال المفتي السابق أحمد بدر الدين حسون أثناء محاولته مغادرة البلاد في آذار/مارس 2025، بتهم تتعلق بالتحريض الديني ودعم آلة القتل طوال سنوات الحرب. يُذكر أن حسون كان أحد أبرز الأصوات التي وفّرت الغطاء الديني للنظام السابق، ودافع علنًا عن حملاته العسكرية ضد المدنيين، ما جعله رمزًا في الخطاب الذي ساهم في تأجيج الكراهية والانقسام.
كما سلّم اللواء محمد إبراهيم الشعار، وزير الداخلية الأسبق في عهد النظام البائد، نفسه للسلطات في شباط/فبراير 2025. الشعار، الذي شغل الوزارة بين عامَي 2011 و2018، وُجهت إليه اتهامات بالإشراف على عمليات قتل وتعذيب وإخفاء قسري داخل مراكز الاحتجاز، إلى جانب انتهاكات ممنهجة ارتُكبت خلال فترة ولايته الأمنية.
وأصدرت وزارة العدل مقطع فيديو للتحقيق معهم، يُظهر بعض إجراءات التحقيق، الأمر الذي لاقى ترحيباً واسعاً بين السوريين الذين يتطلعون لتحقيق العدالة.
يبقى القبض على بعض المجرمين وتأسيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية خطوة على أول الطريق، فالعدالة الانتقالية لا تقتصر على إلقاء القبض أو القرارات القانونية، بل هي منظومة شاملة تهدف إلى مواجهة الماضي من أجل بناء المستقبل. وهي تتطلّب اعترافًا صريحًا بالضحايا، ومصارحة مجتمعية، وتتطلب إرادة سياسية ومجتمعية. حيث في بلدٍ مثخنٍ بالجراح مثل سوريا، يعتبر تحقيق العدالة الانتقالية هو الشرط الأول لأي مصالحة حقيقية. فلا إعمار بلا إنصاف، ولا استقرار بلا محاسبة، ولا وطن يُبنى على النسيان، بل على الحقيقة والكرامة والمساءلة.
اقرأ أيضاً: درعا بعد سقوط النظام: خطوات بطيئة نحو العدالة الانتقالية 2/2
الرابط: https://daraa24.org/?p=54452






