بئر المتاعية: التحقيق يكشف تفاصيل الضربة الجوية والجهة المحتملة
بئر المتاعية لمياه الشرب وتظهر فيه ألواح الطاقة الشمسية

لم يكن أحد من أهالي قرية المتاعية في الريف الشرقي من محافظة درعا يتوقع أن يتم استهداف بئر المتاعية وألواح الطاقة الشمسية الخاصة ببئر مياه الشرب، التي قاموا بتجهيزها بأنفسهم بعد جمع التبرعات لحل مشكلة انقطاع المياه.

مرّ عام كامل على تلك الحادثة، التي وقعت في ليلة 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، وما زال “أبو محمد”، الرجل الخمسيني، يتذكّر تفاصيلها بوضوح، يقول: “كل الجهود التي بذلناها لتوفير مياه الشرب ذهبت هباءً. تعبنا كثيراً وعملنا لفترة طويلة لتجهيز هذا البئر بالطاقة الشمسية، ثم جاء القصف ودمر كل شيء”.

بعد عام من الحادث.. يوم قصف الطيران بئر المتاعية 18 كانون الأول 2023 تنشر شبكة درعا 24 تحقيقها الذي بدأته منذ أشهر

مَنْ قصفَ بئر مياه الشرب في المتاعية؟

في الذكرى الأولى لهذا الاستهداف، يُعيد فريق التحقيق في شبكة درعا 24 بناء القصّة كاملة بعد جمع شهادات السكان من أبناء المنطقة، وبالاعتماد على المصادر المفتوحة وجمع وتحليل الصور والفيديوهات التي وثقت لحظة القصف وما تلاها. وحتى الآن لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم، كل هذه الرحلة من البحث للإجابة عن سؤال: من قصف بئر المتاعية؟

كيف وقعت الحادثة؟

في الساعة 10:45 ليلاً، 18 كانون الأول 2023، أفاد مراسلو شبكة درعا 24 بوقوع انفجار هائل في الريف الشرقي من محافظة درعا، تبعه انفجار آخر بعد ثوانٍ. سرعان ما وصلت الأخبار إلى غرفة التحرير من المراسلين والمصادر في المنطقة، تؤكد بأن الانفجارين استهدفا بئر قرية المتاعية الواقع بمحاذاة مبنى الكسّارة. لاحقا وصلتْ إلينا صور للدخان المُتصاعد وسط تأكيدات أهالي القرية والبلدات المحيطة بأن طيراناً هو الذي نفذ الضربة الجوية.

أسفر القصف عن إصابة الناطور المسؤول عن حراسة البئر، بينما دُمرت ألواح الطاقة الشمسية بالكامل، مما أدى إلى خروج البئر عن الخدمة حتى اليوم.

بدأ فريق التحقيق في الشبكة بجمع البيانات والمعلومات من مصادر متعددة. أولاً، استمع الفريق لشهادات السكان الذين أكدوا أن القصف كان مفاجئاً، حيث لم تُلاحظ أي تحركات مشبوهة داخل القرية أو في محيطها أو عند البئر في ذلك اليوم.

بعد جمع الشهادات، بدأ فريق التحقيق بتحليل الصور والفيديوهات التي حصلنا عليها. كان من بين هذه المواد فيديو يُوثّق الموقع بتفاصيله الدقيقة، بما في ذلك مكان سقوط أحد الصواريخ. بالإضافة إلى ذلك، يُظهر الفيديو ما يُعتقد أنها بقايا المقذوفات في موقع الحادث.

شريط مصور يُظهر بئر المتاعية بعد القصف

لم تكن بقايا المقذوف واضحة في الفيديو، مما دفع فريق التحقيق إلى الاستعانة بخبير عسكري للتعرف عليها. ومع ذلك، لم تُسفر هذه المحاولة عن نتائج، حيث كانت البقايا متفتتة بشكل شبه كامل.

تواصل الفريق أيضاً مع عدة أطراف للوصول إلى الأشخاص الذين جمعوا بقايا الموقع بعد الحادث، حيث تم تجميع كل شيء في مكان واحد في قرية المتاعية. لكن رغم ذلك، لم يتم العثور على أي بقايا تُظهر طبيعة المقذوف بين المواد التي جُمعت.

لجأ فريق التحقيق إلى العميد الطيار أسعد الزعبي، المنشق عن الجيش السوري، والمُنحدر من بلدة الطيبة شرقي درعا، وقد أكد أن قسم من المعدن يظهر مُكسر وقسم متطاير أو مثقب أو ذائب، بينما تظهر الأعمدة في المكان واقفة، وهذا يدّل على أن القنابل المُستخدمة فراغية، والتي تنتشر على مساحات واسعة وتحرق كمية كبيرة من الأوكسجين، وتُشكّل قوة ضغط هائلة جداً. مُرجحاً أن تكون القنابل من نوع GBU-28، وهي متوفرة، لدى الجيش الأردني، وفقاً للأسعد.

اقرأ أيضاً: 800 مليون لحفر بئر لمياه الشرب شرقي درعا

في هذه المرحلة، بدأنا بتحليل مقاطع الفيديو المُلتقطة لحظة القصف، وفي اليوم التالي. ومن خلال أدوات البحث والمصادر المفتوحة، تمكنا من تحديد موقع البئر، الذي يبعد 1.26 كم عن الحدود الأردنية.

لجأ الفريق إلى المصادر الأردنية، حيث وجدنا أن الأوضاع على الجانب الأردني من الحدود كانت مختلفة عما جرى في المتاعية.

حلل الفريق المصادر الرسمية الأردنية، ورسم تسلسلاً زمنياً للأحداث على الحدود لما سبق الضربة الجوية على البئر وما تلاها، في يوم القصف 18 ديسمبر 2023: 

تسلسل زمني للأحداث على الحدود الأردنية السورية يوم القصف

  • في الساعة: 10:03 صباحاً (بتوقيت سوريا): أعلنتْ القوات المسلحة الأردنية عبر بيان رسمي عن اشتباكات اندلعت منذ ساعات الفجر الأولى على الحدود الأردنية السورية مع مجموعات مسلحة، وتحديدًا ميليشيات تهريب المخدرات. وقالت أنها أحبطت تهريب كميات كبيرة من المخدرات والأسلحة الأتوماتيكية والصاروخية.
  • الساعة: 03:46 مساءً (بتوقيت سوريا): صرّح وزير الاتصال الحكومي الأردني أن بلده يخوض حربًا نيابة عن دول المنطقة لحماية الحدود الشمالية من ميليشيات المخدرات المدعومة من قوى إقليمية تسعى لتهريب المخدرات عبر الحدود الأردنية.
  • الساعة: 07:19 مساءً (بتوقيت سوريا): نقلت وكالة الأنباء الأردنية الرسمية “بترا” حول استمرار الاشتباكات على الحدود السورية الأردنية بين الجيش الأردني ومجموعات مسلحة.
  • الساعة: 08:53 مساءً (بتوقيت سوريا): لأول مرّة، كشفت القوات المسلحة الأردنية في بيان عن هويات بعض المهربين الذين قبضتْ عليهم أثناء الاشتباكات على الحدود. كانت هذه الحادثة تعتبر حدثاً مفاجئاً، حيث لم تكشف سابقاً الأردن عن هويات وصور مهربين، على الرغم من إعلانها قبل ذلك القبض على مهربين.
  • الساعة: 10:45 مساءً (بتوقيت سوريا): سمع الأهالي صوت انفجارين متتالين في الريف الشرقي من محافظة درعا، وتحليق طيران، واتضح بعدها بقليل أن القصف كان على بئر في قرية المتاعية، القريب من الحدود السورية – الأردنية، وبقيت الطائرات تحوم في سماء المنطقة بعد ذلك لوقت قصير.
  • في نفس التوقيت السابق، أو بعده بلحظات قليلة: قُصفتْ مواقع في محافظة السويداء.
  • بعد منتصف الليل: الساعة: 12:05 (بتوقيت سوريا): نشرت قناة المملكة الأردنية الرسمية فيديو استعراضي للجيش الأردني  قالت فيه أنه: “يتوعد كل من يحاول المساس بأمن الأردن.. حدودنا مقبرة لكم”.
  • 12:46 (بتوقيت سوريا): أي بعد مرور حوالي ساعتين فقط من وقوع القصف الجوي على بئر المتاعية ومواقع في السويداء، نقلت وكالة رويترز خبراً أسندته إلى مصادر في المخابرات الأردنية، أكدت وقوع الضربات الجوية، لكنه لم يذكر تفاصيل دقيقة حول مواقع القصف.

اعتمادا على التسلسل الزمني، بدأنا في البحث من خلال الخرائط وصور الستاالايت عن موقع الألواح الشمسية للتأكد من وقت تدميرها، وباستخدم الفريق أداة Copernicus Browser، حصلنا على صور ستالايت للموقع قبل وبعد القصف. 

بئر المتاعية قبل وبعد القصف

تُظهر الصور الأولى، بتاريخ 08-12-2023، و 16-12-2023، آخر ظهور لموقع البئر والألواح الشمسية بشكل واضح. أما الصورة الثانية، بتاريخ 26-12-2023، تختفي فيها الألواح الشمسية من على الخريطة.

ووفقاً للتسلسل الزمني، تعرّض الموقع للقصف بتاريخ 18-12-2023، أي ضمن الفترة الزمنية التي تُظهر الصور فيها اختفاء الألواح من صور الأقمار الصناعية.

إقرأ أيضاً: بلدة المتاعية عطشى بسبب قصف الطيران الأردني قبل أشهر

بئر المتاعية قبل وبعد القصف من خلال صور الأقمار الاصطناعية

إقرأ أيضاً: مشكلة مياه الشرب في محافظة درعا: فساد وتجاوزات تفاقم الوضع، ومعاناة مستمرة

هل هناك جهات أخرى يمكن أن تكون مسؤولة عن القصف؟

وضع فريق التحقيق هذا السؤال، وأنشأنا قاعدة بيانات للضربات الجوية على محافظة درعا خلال السنوات الأخيرة، وتبين من خلالها أن الاحتمالات للإجابة عن هذا السؤال بأن الأطراف المحتملة هي: إسرائيل، والنظام السوري وحليفه روسيا، والأردن. 

وفقاً للبيانات التي جُمعتْ، لم تسجَّل أي ضربات جوية نفذتها إسرائيل على مواقع مشابهة في المنطقة الجنوبية. كما لم يُلاحظ استهداف إسرائيل لأي مواقع في محيط قرية المتاعية أو بالقرب منها. أقرب عملية قصف إسرائيلية تم توثيقها كانت لمواقع عسكرية في محيط بلدة ناحتة، التي تبعد عن بئر المتاعية أكثر من 35 كم (بالنظر المباشر).

يعلّق العميد أسعد الزعبي على ذلك بأنه أولاً يجب النظر إلى نوع الهدف الذي استهدف بالطيران، فإذا لم يكن هناك مواقع إيرانية تهدد إسرائيل، فهو ليس إسرائيليا.

أما فيما يتعلق بالنظام السوري وروسيا، فلم يُسجَّل استهداف أي موقع في محافظة درعا بالطيران منذ منتصف عام 2018 وحتى يوم الحادث. كان آخر قصف للطيران السوري والروسي في 2018، واستهدف مدناً وبلدات في محيط المتاعية، لكنه لم يشمل البلدة نفسها. كما لم تشهد المنطقة عموماً أي استهدافات بالطيران الحربي من قِبلهما منذ ذلك الحين، وفقاً للبيانات التي جمعناها.

تواصلت شبكة درعا 24 مع مكتب الإعلام في القوات المسلحة الأردنية للاستفسار حول مسؤولية الطيران الأردني عن قصف بئر المياه في قرية المتاعية. ولم نتلقَّ أي ردّ حتّى وقت نشر التحقيق.

ماذا يقول أهالي المنطقة؟

كل الذين تحدثت معهم شبكة درعا 24 من الأهالي أكدوا أن الأوضاع كانت في قرية المتاعية هادئة تماماً. يؤكد محمد الكفري، 42 عاماً، وهو اسم مستعار لأحدهم: “لم نُلاحظ أي تحركات مشبوهة، سواء داخل القرية، أو في محيطها، كانت الضربة دقيقة ومقصودة للبئر، أصبح المكان مخبوص [محطما] والحديد متناثرا جراء الانفجارات”.

صور من قصف بئر المتاعية

أما حكيم محمد، وهو شاب من بلدة الطيبة المجاورة لقرية المتاعية وناشط ميداني، فيتذكر أنه عند سماع الانفجار، سارع للصعود إلى سطح منزله ليرى ما الذي حدث، ويراقب حركة الطائرة واتجاه انعدام صوتها. ويؤكد أنه اكتسب خبرة خلال السنوات الماضية، مشيراً إلى أنه ليس وحده في ذلك، بل إن غالبية أهالي المنطقة لديهم القدرة على تحديد اتجاه الطيران، حتى لو لم يكن مرئياً، وذلك بناءً على انعدام صوته، أي عن طريق حاسة السمع.

يؤكد حكيم محمد أن الطيران الذي نفذ الضربة كان أردنياً، مستنداً إلى ملاحظته لمسار الصوت. يقول: “صوت الطائرة كان ينسحب باتجاه أقصى الجنوب، أي فوق الأراضي الأردنية، واستمر هديرها بالتلاشي حتى اختفى تماماً”.

ويضيف أنه لو كان الطيران سورياً، فإن مساره لا يمكن أن يشمل التحليق فوق الأراضي الأردنية. ويوضح: “لو كان الطيران سورياً، لكان الصوت يأتي من الشمال بشكل قوس باتجاه الجنوب الشرقي، ثم يعود ليأخذ الاتجاه الشمالي، كما اعتدناه خلال السنوات التي كان فيها الطيران السوري والروسي يقصف المنطقة”.

حاولت شبكة درعا 24 مرة ثانية الحصول على رد من الجهات الرسمية في الأردن. أرسلنا في تلك المرة بريداً إلكترونيا لوزارة الإعلام والاتصال الحكومي الأردنية للحصول على تعليق رسمي حول قصف بئر المتاعية، ولم نتلقَّ أيضاً أيّ ردود حتى لحظة نشر التحقيق.

لا يزال الوضع على حاله بعد عام كامل من قصف البئر الرئيسي الذي يغذي شبكة مياه الشرب في بلدة المتاعية. بقي بئر واحد آخر فقط في الخدمة، وهو يوفر مياه الشرب لأكثر من 4000 نسمة في البلدة.

يعبر أبو محمد، الرجل الخمسيني، عن خيبة أمله بضياع  جهود الأهالي بقصف البئر بعد تأهيله، ويختم حديثه حول الصعوبات اليومية التي يواجهها السكّان قائلاً: “تعمل المياه على الشبكة كل عشرة أيام لمدة ساعتين ونصف فقط، وهذا إذا اشتغلت من دون كهرباء، لأن الضخ يحتاج للكهرباء، والكهرباء عندنا غير مستقرة. والحل الوحيد هو شراء المياه عبر صهاريج النقل، التي يتجاوز سعر الواحد منها 100 ألف ليرة. وكل عائلة تحتاج على الأقل إلى أربعة صهاريج شهرياً، ندفع مبالغ كبيرة لتحصل على المياه”.

يبقى سؤال المسؤولية دون إجابة رسمية حتى اليوم، لكن الأدلة التي جمعناها تشير إلى احتمال كبير أن الطيران الذي نفذ القصف هو طيران أردني، وذلك في إطار عملياته لمحاربة عمليات تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن.

في المقابل يبقى أهالي المتاعية في حالة من اليأس بعد مناشدتهم لجميع الجهات، سواء المنظمات غير الحكومية أو المؤسسات الحكومية، ومع ذلك، لم يجدوا من يسمعهم، حيث لا يزال البئر خارج الخدمة، وهو حال العديد من الخدمات الأخرى المفقودة في هذه القرية وغيرها من مدن وبلدات محافظة درعا.

بدأ العمل لإنجاز هذا التحقيق منذ قرابة خمسة أشهر.

الرابط: https://daraa24.org/?p=46910

موضوعات ذات صلة