في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، أُفرج عن آلاف السجناء من المعتقلات السورية، ومن بينهم معتقلو سجن صيدنايا سيء السمعة. وقد رصدت شبكة “درعا 24” خروج عدد من السجناء المنتمين إلى تنظيم داعش، خصوصًا ممن عملوا في منطقة حوض اليرموك إبان سيطرته هناك، قبل أن يُعتقلوا عام 2018 بعد حملة النظام السابق على محافظة درعا. كما عاد بعض العناصر الذين كانوا فارّين آنذاك إلى قراهم بعد سنوات من التواري.
عودة بلا مساءلة
في بلدة تسيل التي تقع في ريف محافظة درعا الغربي، والتي خضعت لسيطرة التنظيم قرابة عامين، عاد ما لا يقل عن ثمانية من عناصر داعش، بينهم من تولى مناصب داخل التنظيم. يقول أحد أبناء البلدة لشبكة درعا 24:
«عانى الأهالي أشد المعاناة من وجود داعش، حيث قُتل العديد من أبنائنا، وكانت الجثث تُعلّق على الأعمدة في الشوارع عام 2016. هذا مشهد لا يُنسى».
أضاف: «اليوم، بعد سقوط النظام، عاد بعض هؤلاء العناصر إلى البلدة دون مساءلة، بل إن بعضهم محميّون من مفرزة الأمن في تسيل، ومن جهاز الأمن العام في المنطقة الغربية. بعضهم يتباهى بانتمائه للأمن، أو يصرّح بأن أصدقاءه يعملون ضمن الأجهزة، أو أنه محميّ من الدولة».
في بداية شهر تموز/يوليو الماضي، وثقت “درعا 24” خروج مظاهرة في بلدة تسيل أمام المفرزة الأمنية، طالبت بإخراج عناصر داعش السابقين من البلدة. جاءت هذه المظاهرة إثر خلاف نشب بين أحد الأهالي وبعض العائدين من عناصر التنظيم.
عودة بعض عناصر تنظيم داعش إلى بلدات الريف الغربي لا تثير فقط مخاوف فردية مرتبطة بذكريات العنف، بل تشكّل تهديدًا مباشرًا للسلم الأهلي في المنطقة. فالأهالي الذين فقدوا أبناءهم أو تعرّضوا لانتهاكات جسيمة على يد التنظيم يجدون أنفسهم اليوم وجهاً لوجه مع المنفّذين السابقين دون أي مسار للمحاسبة.
هذا الواقع يفتح الباب أمام نزاعات ثأرية محتملة، ويغذي انعدام الثقة بين المكوّنات المحلية، ويضعف أي جهود لبناء استقرار مجتمعي بعد سقوط النظام. ويؤكد ناشطون محليون أن ترك هذا الملف دون معالجة عادلة وشفافة، سيحوّل هؤلاء العائدين إلى فتيل دائم للتوتر، يهدد بتفجير صراعات جديدة في الجنوب.
إلى جانب المخاوف الاجتماعية، يشير ناشطون في درعا إلى أن عودة بعض عناصر التنظيم تتزامن مع تسجيل عمليات اغتيال في ريف المحافظة، تحمل في أسلوبها بصمات تنظيم داعش. ففي الأشهر الماضية، شهدت المنطقة استهدافات متفرقة بالرصاص أو العبوات الناسفة، نُفّذت بطريقة تشبه التكتيكات التي اعتمدها التنظيم سابقًا ضد معارضيه.
ورغم غياب تبنٍّ رسمي لتلك العمليات، إلا أن تكرارها يثير القلق من احتمال عودة نشاط أمني للتنظيم بواجهة جديدة، ما يعزز المخاطر على السلم الأهلي ويهدد جهود الاستقرار في الجنوب.
لا يُعد هؤلاء العائدين هم الأوائل ولا عودتهم هي الأولى من نوعها، ففي العام 2019، وثقت شبكة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” إخلاء سبيل أكثر من 20 مقاتلاً من عناصر التنظيم، موثقين بالاسم، بينهم ممن عرفوا بارتكاب جرائم ضد الأهالي في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي.
هذه الظاهرة لم تقتصر على تسيل وحدها، بل شملت بلدات أخرى في الريف الغربي من درعا، ما أثار تخوفات كبيرة بين الأهالي:
أحد الآهالي في بلدة اليادودة قال للمراسل: “هذا مثل سكب الزيت على النار. من فقد ابنه أو شقيقه على يد هؤلاء، كيف يمكنه أن يتحمّل رؤيتهم أحرارًا؟”
وفي هذا السياق، قال أبو حيان مؤيد الأقرع، أحد قادة اللجنة المركزية سابقًا، لـ”درعا 24” في مقابلة سابقة لدى سؤال الشبكة عن عودة هؤلاء: « إن أي عنصر يلتزم حياته المدنية لن تكون هناك مشكلة معه”، لكن من يعود للتنظيم أو يشرع في التجنيد “سيُعامل وفق ضوابط الدولة الجديدة، سواء بالاعتقال أو المحاكمة أو حتى القتل».
معاملة مختلفة في سجون النظام
في السياق ذاته، نُشرت مقابلة محلية مع أحد المفرج عنهم من سجن صيدنايا، تبيّن أنه كان عنصرًا في “جيش خالد بن الوليد” التابع لداعش. اعتُقل عام 2018 خلال الحملة التي شنها النظام بمساعدة القوات الروسية.
وفي المقابلة تحدّث عن معاناة الاعتقال في “السجن الأحمر”، لكنه أشار أيضًا إلى تسهيلات، مثل استقبال زيارات دورية من ذويه وإدخال الطعام، إضافة إلى تشغيل التدفئة في الشتاء. هذه الرواية تتناقض مع ما وثّقته منظمات حقوقية بشأن ظروف آلاف معتقلي الرأي والسجناء السياسيين، الذين حُرموا من أبسط حقوقهم داخل صيدنايا.
هذه الشهادة والوقائع أعادت طرح تساؤلات حول ما إذا كان عناصر تنظيم داعش يحظون بمعاملة مختلفة عن باقي المعتقلين في سجن صيدنايا وباقي معتقلات النظام؟ ولماذا أُفرج عن عناصر منهم في العام 2019 رغم ارتباطهم بالتنظيم، في حين بقي مئات المعتقلين السياسيين والذي خطفوا من المظاهرات وعلى الحواجز خلف القضبان؟

وفي السياق ذاته، ما زالت بعض الانتهاكات المرتبطة بهذا الملف تتكرر حتى بعد سقوط النظام، كما في قضية راني المسالمة، الذي اعتقلته قوى الأمن الداخلي في الحكومة الانتقالية يوم الثلاثاء 29 تموز/يوليو 2025، خلال مداهمة في حي طريق السد، بتهمة انتمائه للتنظيم.
وبحسب أحد أقاربه: «فقد هاجر ”المسالمة“ إلى ألمانيا في العام 2016، وعاد مؤخراً إلى محافظته بشكل نظامي، ومنذ عودته وهو يعمل على ترميم منزله المدمّر، من دون أن يمارس أي نشاط يخرق القانون».
الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتبرت ما جرى اعتقالًا تعسفيًا يخالف العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ودعت إلى الكشف عن مصير المسالمة، وضمان محاكمة عادلة أو الإفراج عنه، ومحاسبة المتورطين بالانتهاك.
وأكدت الشبكة أنّ الاعتقال تم من دون مذكرة قضائية، وأنه نُقل إلى أحد مراكز الاحتجاز من دون السماح لعائلته بالتواصل معه أو معرفة سبب توقيفه. وفي تصريح لشبكة “درعا 24”، أوضح نقيب في قوى الأمن العام أنّ التحقيقات ما زالت جارية معه، وأن التهم لم تثبت حتى الآن.
في المقابل، يشير ناشطون إلى أنّ عناصر آخرين موثّق انتماؤهم للتنظيم ما زالوا طلقاء دون محاسبة، بل إن بعضهم يحظى بحماية من مراكز أمنية.
سيناريو 2014: الإفراج بوصفه استراتيجية أمنية؟
الإفراجات المثيرة للجدل في عام 2019 لم تكن سابقة معزولة، بل تكرار لنمط بدأ قبل ذلك بسنوات. ففي عام 2014، أفرجت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق عن المدعو مروان محمد عبد الفتاح زين العابدين وإبراهيم المقدم بعد أن قضيا نحو عشر سنوات من حكم بالسجن لمدة 15 عاماً، على خلفية اتهامات بالتورط في تفجير في العاصمة دمشق – كما أُشيع حينها لكن لم يتم التأكد.
وفق مصادر محلية من بلدة تسيل – مسقط رأس زين العابدين والمقدم – فقد اعتُقلا في عام 2004 إلى جانب شقيق زين العابدين وشاب آخر، لكن جرى الإفراج عن الأخيرين لاحقًا دون أي توضيح الأسباب. ويُعتقد أن الاتهامات ضد زين العابدين والمقدم تعلقت بانتمائهما لتنظيم إسلامي يُدعى “جند الشام”، خلال فترة تواجدهما في لبنان قبيل اعتقالهما بفترة وجيزة.
لاحقاً وبعد اندلاع الثورة السورية، في العام أطلق النظام 2014 سراح زين العابدين والمقدم من سجونه، في توقيت لافت كان النظام قد انهار فيه بشكل شبه كامل في الجنوب السوري.
الإفراجات المثيرة للجدل لم تبدأ في 2019، بل تعود إلى عام 2014، عندما أطلقت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق سراح مروان محمد عبد الفتاح زين العابدين وإبراهيم المقدم بعد أن أمضيا قرابة عشر سنوات في السجن من أصل حكم بخمسة عشر عامًا بتهمة التورط في تفجير في دمشق، وبتهم متصلة بانتمائهما لتنظيم “جند الشام” خلال فترة تواجدهما في لبنان.
ووفق مصادر من بلدة تسيل، فقد اعتُقلا عام 2004 مع شقيق زين العابدين وشاب آخر، أُطلق سراحهما لاحقًا. الإفراج عن زين العابدين والمقدم عام 2014 جاء في توقيت لافت، إذ كان الجنوب السوري يشهد انهيارًا متسارعًا لسيطرة النظام.
حينها كان محمد سعد الدين البريدي، الملقب بـ “الخال”، يقود “لواء شهداء اليرموك”، الذي تأسس عام 2012 وكان يضم نحو مئتي عنصر. لاحقًا أصبح هذا الفصيل النواة الأساسية لـ “جيش خالد بن الوليد” المبايع لداعش. لم يمض وقت طويل على الإفراج حتى أسس زين العابدين والمقدم معسكرًا لتجنيد الشباب مقابل 200 دولار شهريًا، في خطوة أثارت الشكوك حول مصدر التمويل. عُرف زين العابدين باسم “أبو المثنى”، فيما صار المقدم “أبو خطاب”، وكلاهما برزا كقياديين في التنظيم خلال فترة سيطرته على حوض اليرموك.
تشير مصادر من داخل التنظيم إلى أنهما، مع قادة قادمين من خارج المحافظة، شكّلوا النواة التي رسخت تبعية التنظيم لداعش، وسيطروا على قرى حوض اليرموك.
بعد السيطرة على حوض اليرموك: قاتل التنظيم المعارضة وتجاهل النظام
بعد السيطرة، فرض التنظيم أحكامه المتشددة، وشهدت المنطقة موجة إعدامات واعتقالات، خصوصًا بحق مدنيين بتهمة التعاون مع فصائل المعارضة. لكن اللافت أن التنظيم ركّز معاركه على فصائل المعارضة دون أن يخوض مواجهات مباشرة مع النظام، ما أثار الشكوك حول طبيعة العلاقة بين الطرفين.
عام 2016، شنّ داعش هجومًا واسعًا على قرى في الريف الغربي لدرعا، سيطر على بعضها سريعًا. لكن الفصائل المعارضة تمكنت بعد شهر من استعادة السيطرة وطرد مقاتليه. رغم ذلك، واصل التنظيم هجماته المتفرقة على المعارضة، فيما كان النظام يركّز قصفه على مناطق المعارضة، متجاهلًا مناطق التنظيم، في مفارقة عمّقت الشبهات.
إقرأ أيضاً: إلقاء القبض على أمير القاطع الشرقي لتنظيم داعش بكمين شمالي درعا
حملة النظام لاستعادة السيطرة
بعد سلسلة من الهجمات المباغتة في عام 2017، تمكّن تنظيم داعش من استعادة بعض نفوذه في ريف في 2017، مسيطرًا على بلدات مثل تسيل وعدوان وتلال استراتيجية. وبقي كذلك حتى منتصف 2018، حين أطلق النظام بدعم روسي حملة عسكرية واسعة لاستعادة محافظة درعا. شاركت فصائل خضعت للتسوية إلى جانب قوات النظام في قتال التنظيم، في خطوة اعتبرها الأهالي حينها “قتالًا اضطراريًا” لإنهاء مرحلة لم تعد تخدم النظام.
شهدت الحملة معارك عنيفة قُتل خلالها عدد من قيادات التنظيم، بينهم مروان محمد زين العابدين “أمير الحسبة”، بينما ظل مصير شريكه إبراهيم المقدم مجهولًا، ورجحت مصادر فراره إلى لبنان. كما اعتُقل عدد من أقارب زين العابدين، فيما فرّ آخرون إلى مناطق متفرقة في درعا والبادية. وحتى اليوم، لا تتوفر أي معلومات مؤكدة عن أماكن وجودهم، ولا عن مصيرهم.
عودة بلا حساب بعد سقوط النظام: فهل يتكرّر السيناريو القديم؟
مع انهيار النظام السوري في ديسمبر 2024، عادت إلى واجهة الأحداث في درعا وجوه مألوفة. فقد شهدت عدة مناطق في المحافظة عودة مفاجئة لعناصر سابقين في تنظيم داعش إلى قراهم، دون أي إجراء قانوني أو مساءلة، بل وسط صمت مطبق من الجهات الفاعلة. بعض هؤلاء كانوا معتقلين في سجن صيدنايا أو غيره من معتقلات النظام، وبعضهم كانوا متوارين عن الأنظار، أو متنقلين بين مناطق شمال غرب سوريا.
يقول ناشط من منطقة حوض اليرموك: “كأننا نعيش تكرارًا لاستقبالهم في العام 2014، عندما دخلوا مناطق الجيش الحر بغطاء مريب. لكن الفارق اليوم أنهم يعودون بعد أن ذبحوا الناس، ومعروفة كل أفعالهم، والعجيب أن يُترك لهم المجال مفتوحًا، بل يُرحّب ببعضهم من قبل أجهزة الأمن. هؤلاء قنابل موقوتة”.
ويتابع: “ما يزيد الشكوك هو تكرار هذا المشهد في أكثر من قرية، ما يوحي بأن هناك تجاهلًا مقصودًا أو حتى حماية ضمنية مستغربة”.
أثارت هذه الظاهرة تساؤلات عديدة بين السكان المحليين – خاصّةً في المناطق التي كان يسيطر فيها التنظيم سابقاً – حول كيفية تعامل الجهات المسؤولة مع هذا الملف الحساس. ويعبرون عن تخوفهم من خشية استخدام عناصر التنظيم لتحقيق غايات أو أن يكونوا أدوات لافتعال الفوضى في مناطقهم أو إلى ما أبعد من ذلك كما حصل سابقاً عندما تمكن التنظيم من فرض سيطرته، في مناطق واسعة في درعا، دون ردع فاعل.
ومع كل هذه التطورات تتعالى أصوات السكان في ريف درعا الغربي مطالبة بإجابات واضحة:
- من يقرر السماح بعودة هؤلاء؟
- وأين هي الجهات التي يفترض بها حماية الناس ومحاسبة المجرمين؟
- وهل ما نشهده نتيجة إهمال، أم سياسة مقصودة لإعادة خلط الأوراق في الجنوب؟
في ظل كل ذلك، يؤكد الأهالي أن العدالة لا تُبنى بالنسيان، ولا تكتمل دون محاسبة جميع الجناة، سواء كانوا من أجهزة النظام البائد، أو ممن ارتكبوا جرائم باسم الدين.
ختامًا، تبدو عودة عناصر تنظيم داعش إلى بعض بلدات درعا بعد سقوط النظام السابق كأنها إعادة فتحٍ لجروح لم تلتئم بعد. فالأهالي الذين عاشوا سنوات من الرعب تحت رايات التنظيم، وخسروا أبناءهم وأقاربهم في مشاهد الإعدامات والتفجيرات، يجدون أنفسهم اليوم أمام الوجوه ذاتها تعود من دون محاسبة. وبينما تتراكم الأسئلة حول طبيعة العلاقة التي جمعت هؤلاء بالنظام البائد، يبقى الخوف الأكبر من أن تتحول هذه العودة إلى أداة جديدة لخلط الأوراق وزرع الفوضى في الجنوب. العدالة بالنسبة للسكان لم تعد مطلبًا ثانويًا، بل شرطًا أساسيًا لبناء أي مستقبل آمن، إذ لا استقرار ولا مصالحة حقيقية من دون محاسبة عادلة لكل من تلطخت أيديهم بالدماء، سواء كانوا من أجهزة النظام أو من مقاتلي التنظيم.
الرابط: https://daraa24.org/?p=53206