هرع العشرات من أهالي بلدة غباغب شمالي درعا في عصر السادس عشر من أيلول 2025، مسرعين إلى حفرةٍ في محيط البلدة عمقها أكثر من ثلاثة عشر متراً، كان الدخان يتصاعد من داخلها، بعدما أشعل شبّان النيران في قعرها العميق خلال محاولاتهم للوصول إلى ما اعتقدوا أنه كنز مدفون، يمكن الوصول إليه عبر عمليات التنقيب.
تمكن الأهالي من إنقاذ واحدٍ منهم فقط، بينما أُخرج ثلاثة آخرين على شكل جثثٍ هامدةٍ.
ليست هذه الحادثة هي الوحيدة؛ فمنذ سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، تحوّلت أرض درعا إلى شبكةٍ من الحفر العشوائية، بعضها يلتهم أرواح شبّان يحلمون بالثراء، وبعضها يدمّر طبقاتٍ أثرية تختزن تاريخاً عمره آلاف السنين.
وثِّقتْ درعا 24 منذ ديسمبر الماضي حتى أيلول 2025 مقتل سبعة أشخاص وإصابة اثنين آخرين، خلال حوادث التنقيب عن الذهب والآثار داخل المحافظة.
في بلدة جباب شمالي درعا، لفظ شابان أنفاسهما في حزيران 2025 بعدما ابتلعتهما حفرة تجاوز عمقها عشرين متراً، وأُخرجا منها بعد ساعات من محاولات الدفاع المدني لإنقاذهما، وُضع الأول على جهاز التنفس الاصطناعي فور وصوله إلى فرق الإسعاف، إلا أن حالته كانت حرجة، ولم يتمكن من النجاة، بينما خرج الثاني بعد ساعات ميتاً.
وفي بلدة المزيريب غربي المحافظة، انهارت حفرة في تموز فوق رأسي شخصين، فدفنتهما الأرض التي نقباها بأيديهما، بعد انهيارها فوقهما. أما في اليادودة، فقد انفجرت طلقة من مخلفات الحرب في آذار بين يدي شاب وهو يحفر مع رفاقه، فأُصيب بجروح بليغة. إضافةً إلى الثلاثة ضحايا في الحادثة الأخيرة في غباغب.

من الحلم إلى الكابوس: لماذا يتكرر المشهد؟
لا تبدو هذه الحوادث مجرد مصادفات متفرقة. فخلف كل حفرة حكاية أكبر عن فقرٍ متصاعد، وشغفٍ كبيرٍ، وأرضٍ مثقلة بالأساطير عن ذهب وكنوز مدفونة، وغياب سلطة رادعة تحمي الأرواح كما تحمي التراث. بالنسبة لكثير من الشبان في درعا، صار التنقيب هوساً وطريقاً وحيداً لمطاردة حلم الثراء، أو حتى للهروب من البطالة وضيق المعيشة بفعل سنوات الحرب الماضية.
هذا هو الحال مع محمد أبو عبد الله من مدينة نوى غربي درعا، والذي في حديثه مع مراسل درعا 24 لا يُظهر أي اكتراث للمخاطر ولا بأهمية المواقع الأثرية: “البحث عن الآثار ليس خياراً سهلاً، ولكنه أصبح وسيلة للبقاء، ما في عمل، وإذا لقيت ذهب تقبر الفقر لولد الولد. نعم الحفر ربما يدمّر تاريخ المنطقة، لكن الجوع يدفعني ومئات غيري لهذا الطريق”.
في الأحياء والقرى، تنتشر قصص الكنوز المدفونة كما لو كانت حقائق مؤكَّدة: جِرار فخارٍ مملوؤة بالذهب خبّأها الأجداد، أو صناديق أخفتها جيوش مرّت من حوران قبل قرون. تُضاف إلى ذلك شهادات عن أشخاص “وجدوا فعلاً” ذهباً أو لقىً أثرية، فيغدو الإغراء أقوى من أي تحذير. وهكذا، يندفع الشبان ليلاً ونهاراً نحو الحفر، متسلحين بأجهزة كشف أو حتى بجرافات، فيما يراقب آخرون المشهد بين ساخرٍ ومترددٍّ.
لكن التهديدات الحقيقية موجودة، فانهيارات التربة، ومخلفات الحرب المزروعة في الأرض، باتت تودي بحياة الشبّان أو تُصيبهم، وينجون بصعوبة. وإلى جانب ذلك يدفع التراث ثمن التنقيب العشوائي؛ واقع أثرية مثل بصرى الشام وغيرها لم تسلم من الحفر غير المنضبط، فخسرت آثاراً لا يمكن تعويضها، ووفقاً للخبراء فإن كل حجر يُنتزع بلا دراسة، وكل قطعة تُباع في السوق السوداء، تعني ضياع فصل من تاريخ هذه الأرض.
اقرأ أيضاً: تعرّف على الوجه الآخر لمحافظة درعا الأثرية
من الحفر إلى الفضاء الإلكتروني
لم تتوقف موجة التنقيب عند حدود الحفر في الأرض، بل امتدّت إلى الفضاء الإلكتروني. فبعد سقوط النظام، بات التنقيب عن الذهب والآثار أمراً علنياً، بل وظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي مجموعات مفتوحة مخصّصة لتبادل المعلومات بين المنقّبين، يتداولون فيها صوراً على الصخور ورموزاً يعتقدون أنها دلائل على كنوز مدفونة. ومع مرور الوقت، تشكّلت فرق تنقيب شبه منظّمة تتحرك بين القرى بحثاً عن أي أثر يقود إلى الذهب أو اللقى الأثرية.
زاد هذا الانفلات والانتشار بعد غياب الرقابة أثر انهيار النظام السابق ومرور البلاد بمرحلة فوضى، زادت شهية البحث عن الكنوز. ورغم عودة قدر من الاستقرار بعد ذلك بفترة، إلا أن هذه الظاهرة لم تختفِ تماماً، بل استمرت وما تزال مواقع بارزة تعاني من التنقيب العشوائي، أبرزها مدينة بصرى الشام وتل شهاب ودرعا البلد، وكذلك الوديان في العديد من مناطق المحافظة.
تحذيرات رسمية وعقوبات مشدّدة
أصدرت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا سلسلة تحذيرات بشأن مخاطر التنقيب غير القانوني، مؤكدة أنه يشكّل اعتداءً مباشراً على ذاكرة البلاد وإرثها الحضاري. وشدّدت على أن الحفر العشوائي يدمّر المواقع الأثرية ويفقدها معلومات تاريخية لا يمكن تعويضها، كما يتسبّب في تلف اللقى الأثرية نتيجة غياب الأساليب العلمية المتخصّصة، ويسهم في تغذية السوق السوداء من خلال تهريب وبيع القطع الأثرية.
وجاء في أحد بلاغاتها: وفقاً لما نصّ عليه المرسوم التشريعي رقم 222 لعام 1963 وتعديلاته، فإن المديرية العامة للآثار والمتاحف هي الجهة الوحيدة المخوّلة بالتنقيب، وأي شخص يُقدم على الحفر – حتى في أرض يملكها – يُعتبر مخالفاً للقانون.
مشيرةً أن العقوبة تصل إلى السجن خمس عشرة سنة إضافة إلى غرامات مالية كبيرة. كما دعت المديرية المواطنين إلى التعاون والإبلاغ الفوري عن أي نشاطات مشبوهة، وعدم شراء أو اقتناء أي قطعة أثرية مجهولة المصدر.
ما بين التحذيرات الرسمية والواقع على الأرض، تبقى المأساة أعمق من نصوص القوانين. ففي غباغب ما زال أثر الحفرة شاخصاً في محيط البلدة، رغم أن الأهالي سارعوا، بجهودهم الذاتية، إلى ردمها بعد الكارثة، خوفاً من سقوط آخرين فيها. اختفى الغبار، لكن الذكرى بقيت. ثلاث جثث صعدت من بطن الأرض، لتُطوى الحكاية كما طُويت عشرات الحفر قبلها. غير أن السؤال يظلّ مفتوحاً: كم من الأرواح ستُزهق بعد؟ وكم من فصول التاريخ ستُدفن، قبل أن تتوقّف مطاردة سراب الذهب في أرضٍ مثقلة بالحرب والأساطير؟
اقرأ أيضاً: التنقيب العشوائي عن الآثار في درعا: كنوز مفقودة وضياع للهوية الثقافية
الرابط: https://daraa24.org/?p=53669