في الجنوب السوري، حيث تختلط الجغرافيا بالعشيرة والتقاليد بالنزاعات، برز الصلح العشائري خلال السنوات الماضية بشكل أكبر من أي وقت مضى، نتيجة غياب القانون وتراجع مؤسسات الدولة في ظل نظام الأسد السابق. ومع تهاوي المنظومة القضائية وغياب المحاسبة، تحوّل هذا العُرف إلى أداة رئيسية لاحتواء الخصومات ومنعها من التحول إلى ثارات طويلة أو مواجهات دامية.
مبادرات محلية لاحتواء النزاعات
لم يقتصر الصلح العشائري على بلدة أو مدينة بعينها، بل امتدّ ليشمل مختلف مناطق محافظة درعا، حيث تحوّل إلى أداة رئيسية لاحتواء النزاعات ومنعها من التوسع. وعلى سبيل المثال برزت خلال السنوات الأخيرة مبادرات محلية لطيّ الخلافات في مختلف مناطق حوران، عكست الدور الكبير للوجهاء في إعادة الاستقرار الاجتماعي ولو بشكل مؤقت.
في مدينة جاسم شمالي درعا، تحوّل خلاف بين عائلتين إلى اشتباك مسلح أودى بحياة ستة أشخاص وأدى إلى إحراق منازل. لم يكن هناك بديل حقيقي عن الصلح، فاجتمع الوجهاء في إحدى المدارس وخرجوا باتفاق تضمّن دفع دية تجاوزت المليار ليرة سورية وتعويضات عن الأضرار، في مشهد أظهر كيف يمكن للعُرف أن يسبق القانون أو يعوّض غيابه.
أما في إنخل في ذات الريف الشمالي من درعا، بعد مقتل شاب مدني خلال مطاردة نفذها جهاز أمني، حضر المحافظ إلى بيت العزاء، وتولّى الوجهاء التفاوض مع ممثلين عن الجهة الأمنية. وأسفرت المفاوضات عن صلح عشائري شمل دفع دية بقيمة 180 مليون ليرة، وتعهدًا بعدم دخول العناصر المتورطين إلى المدينة لمدة عامين.
وفي قرية كويا غربي درعا، هددت حادثة مقتل يافع على يد شاب من عائلة مجاورة بجرّ المنطقة إلى تصعيد واسع، لكن تدخّل الوجهاء أسفر عن دفع دية قُدرت بـ 425 مليون ليرة، بحضور أهالٍ من مختلف قرى حوض اليرموك، ما أعاد شعورًا مؤقتًا بالأمان.
يقول أبو محسن، أحد وجهاء درعا:
“الجاهة ما بتقدر تمنع الجريمة، لكنها بتقدر تمنع الدم الناتج عن الثأر. لو تركنا الأمور للثأر، كان البلد احترقت أكثر من مرّة”.
أضاف: “الجاهة ليست مؤسسة رسمية، لكنها أشبه بمحكمة متنقلة تحمل العرف والهيبة والقدرة على الإقناع وأحيانًا الإلزام. تبدأ عادة بـ’العطوة‘، أي مهلة للتهدئة تُرفع خلالها راية بيضاء، ثم يتشكل وفد الوجهاء ويبدأ جولات بين الطرفين، وصولًا إلى اتفاق يتضمن غالبًا دفع دية مالية، وقد يشمل الإجلاء أو تعهدات أخرى”.
صعوبات وتحديات أمام المصلحين
لكن هذا الشكل من الصلح لا يخلو من الملاحظات. يقول المحامي حسن المصري:
“الصلح العشائري يعكس توازن القوى في المجتمع، لكنه لا يُنصف دائمًا. هناك صلحات تُفرض على الطرف الأضعف، خصوصًا إذا لم يكن له ظهر عشائري أو كان فقيرًا”.
ورغم ذلك، يرى كثيرون فيه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. ففي خربة غزالة شرقي درعا مثلًا، لم تُطوَ صفحة مقتل شاب أُعدم قاتلاه علنًا إلا بعد صلح عشائري بين العائلتين، حفاظًا على ما تبقى من الروابط الاجتماعية. وفي معربة شرقي درعا أيضاً، شمل الاتفاق إلى جانب الدية إخراج القاتل من البلاد وإجلاء أفراد من عائلته لعشر سنوات تفاديًا لأي تصعيد لاحق.
وفي تصريح مصوّر لدرعا 24، قال السيد أحمد عمر البردان، أبو جمال البردان:
“الصلح بين الناس واجب ديني وإنساني، لكنه يواجه صعوبات أهمها تمسّك بعض الأطراف بمواقفهم وانتشار السلاح العشوائي. لضمان استمراره لا بد من قناعة الأطراف وكفلاء يضمنون تنفيذ الاتفاق. ويجب أن يكون العقاب على الفعل موجّهًا للفاعل نفسه فقط، لا لعائلته أو منزله، حتى لا تتحول الخلافات إلى ثارات جماعية”.
وفي تسجيل مصوّر آخر للشبكة، شدّد حميد محمود كيوان، أبو الحكم على أن:
“الصلح الأهلي في حوران يجمع القلوب ويصون السلم الأهلي، وأبرز عقبة أمامه هي الفتن التي قد تنزع جهود المصلحين. استمراره يحتاج إلى كفلاء يضمنون الوفاء بالاتفاق، وإلى تقوى وإخلاص من لجان الإصلاح، إضافة إلى تعاون المجتمع مع الدولة. الدولة تقدّم اليوم دعمًا معنويًا، لكن المطلوب هو أن تشدّ أكثر مع الأهالي على طريق الصلح. ونتمنى أن يمتدّ هذا النهج ليشمل كل سوريا، لأن الصلح سيد الأحكام”.
بين العرف والقانون
تقول الناشطة المدنية صفاء الحريري:
“الصلح العشائري ليس حلًا مثاليًا، لكنه أقل كلفة من الدم. وفي ظل عجز مؤسسات الدولة، يبقى العرف حاجة مجتمعية، شرط أن يكون تحت ضوء العدالة لا ظلّ السلطة أو المال”.
ورغم أهمية الصلح العشائري، فقد برزت في السابق إشكالية في تداخله مع سلطات الأمر الواقع، حيث كان يُستخدم أحيانًا كأداة لملء فراغ القانون في ظل غياب مؤسسات الدولة. وفي كثير من الحالات جرى الضغط على الأهالي للقبول بصلح لا ينبع من رغبتهم الحرة، بل من اعتبارات سياسية أو أمنية، الأمر الذي أفقد الصلح جزءًا من صدقيته وعدالته.
أما اليوم، ومع وجود قضاء ناشئ بعد سقوط النظام، لم يعد الصلح بديلًا عن القانون، بل بات مكمّلًا له وسندًا يعزّز من دوره. فالمحاكم تنظر في القضايا وتُصدر أحكامها وفق القانون، بينما يتدخّل الصلح الأهلي لمعالجة الآثار الاجتماعية للخلافات، عبر التوفيق بين أهالي الضحية والجاني، أو بين المعتدي والمعتدى عليه، بما يضمن عدم توسّع النزاع إلى دائرة أوسع من العنف أو الثأر.
بذلك أصبح الصلح أداة لحماية السلم الأهلي والمجتمعي، إذ يسدّ الفجوة العاطفية والاجتماعية التي قد يخلّفها الحكم القضائي وحده. وهو بذلك يشكّل ركيزة من ركائز الاستقرار في حوران، إلى جانب دور القضاء الذي يوفّر الضمانات القانونية والعدالة الرسمية. ولكن التحدي اليوم لا يكمن في المفاضلة بين العرف والقانون، بل في إيجاد صيغة تُبقيهما متكاملين: القضاء يوفّر العدالة الرسمية، والصلح يضمن التماسك الأهلي. ومعًا يمكن أن يشكّلا أساسًا لمجتمع أكثر تماسكًا واستقرارًا.
الرابط: https://daraa24.org/?p=54140