ما زالت الأزمات تعصف بالجنوب السوري منذ العام 2011، إلا أنها تصاعدت بشكل كبير منذ صيف 2018 بعد سيطرة السلطات السورية على محافظتي درعا والقنيطرة. تبقى المخدرات أخطر هذه الأزمات وأشدها فتكاً، إذ استفحلتْ حتّى أمستْ ظاهرةً تلقي بظلالها السوداء على جميع فئات المجتمع، ولا سيما الشباب. باتتْ تضرب جميع منظومات الحياة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والأخلاقية في حوران.
أصبحت أخبار القتل والخطف المرتبطة بتجارة وترويج وتهريب المخدرات أخباراً معتادةً في مشهد الجنوب السوري، فوفقاً لإحصائيات شبكة درعا 24، فقد قُتل منذ بداية العام 2024 وحتى نهاية شهر يوليو / تموز الماضي، ما لا يقلّ عن 39 متهماً بتجارة وترويج المخدرات في محافظة درعا، مع تسجيل أعلى رقم في شهر تموز، حيث بلغ عدد القتلى 11 شخصاً.
يرجح مسؤول التوثيق في الشبكة أن الرقم الحقيقي أكبر من 39، إذ لا يتم توثيق القتلى على أنهم متهمون بتجارة المخدرات إلا في حال كان تاجراً معروفاً بهذا العمل منذ زمن، أو التأكد أنه يعمل في هذا المجال من عدّة مصادر محليّة من أبناء المنطقة التي كان يُقيم فيها.
إقرأ أيضا: ارتفاع أعداد القتلى من المتهمين بالمخدرات
تأثير المخدرات يصل إلى كافّة مناحي الحياة
يرى الناشط الحقوقي أحمد الخطيب (اسم مستعار) أنّ ظاهرة المخدرات تسبّبتْ في فوضى أمنية لا تطاق وباتتْ تقض مضاجع الناس في المنطقة، حيث تحدث بشكل متكرر اشتباكات وأعمال عنف بين المهربين والمروجين نتيجة خلافات بينهم، ومن جهة أخرى تقوم مجموعات محلية تابعة للواء الثامن وللجنة المركزية بعمليات مطاردة ومداهمات لمتهمين بتصنيع وترويج وتهريب المخدرات، ويترتب على ذلك إصابات وقتلى من الطرفين، بالإضافة إلى عمليات القتل نتيجة الاشتباكات بين حرس الحدود الأردني ومهرّبيّ المخدرات أو نتيجة قصف الجيش الأردني للأراضي السورية.
يوضح الحقوقي: “في الغالب، لا يتم الكشف عن مصير من يتم اعتقالهم بتهمة المخدرات ولا يخضعون لمحاكمات علنية وعادلة، وهذا يعتبر انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان”.
أما المحامي أحمد الزعبي فيعتبر أن ظاهرة المخدرات بالطبع شديدة الخطورة، ولكنها بنفس الوقت أصبحت ذريعة لبعض عمليات القتل والجرائم، التي لا علاقة لها بالمخدرات، ويضرب مثالاً على ذلك جريمة القتل التي وقعت أواخر شهر حزيران / يونيو الماضي في مدينة درعا، راح ضحيتها “قاسم عمر حسن (السقلاوي)”، تبيّن أنّ الفاعل هو شقيق زوجته بالتعاون مع أبيها على خلفية نزاعات عائلية، إلّا أنّ الجناة حاولوا إخفاء فعلتهم من خلال وضع ورقة على المجني عليه كتب عليها “تاجر مخدرات ويتعاون مع الأجهزة الأمنية”. تكشفتْ بعد تحقيقات الأمن الجنائي في درعا، وقُبض على الأب وابنه، واعترفا بالجريمة.
تلفت ريم الخالد وهي مرشدة اجتماعية، إلى العلاقة بين تعاطي المخدرات والانتحار، مؤكدةً، أن العديد من حالات الانتحار المُسجلة في السنوات الأخيرة في المحافظة، وخاصةً فئة الشباب، إلى أن هذه الحالات مرتبطة بشكل أو بآخر بالمخدرات، ومن الأمثلة على ذلك موت عدد من الشباب بجرعة زائدة أو الموت بسلاح ناري أو ما شابه، كما في حالة الشاب “أ.س” في بلدة الجيزة شرقي درعا، حيث قضى نتيجة تفجيره لقنبلة يدوية بنفسه تحت تأثير المخدرات.
إقرأ أيضا: حملة ضد تجّار المخدرات غربي وشرقي درعا، من يقوم عليها؟
أما بالنسبة للوضع الاقتصادي، يقول الخبير الاقتصادي “حسين العلي” (اسم مستعار): “أدى عمل الشباب في تجارة المخدرات وتعاطيهم لهذه السموم إلى انتشار الجريمة والعنف الأسري والمجتمعي وكذلك إلى زيادة البطالة”. ويشير إلى أن هناك انعكاسات اقتصادية غير مباشرة لآفة المخدرات، من أهمّها التشديد على حركة الشاحنات من الجانبين السوري والأردني بذريعة التفتيش لمنع التهريب، وهو أمر يؤدي إلى تلف المواد المصدرة عبر معبر نصيب الحدودي ولا سيما الغذائية والزراعية منها، وفق ما يوضحه الخبير الاقتصادي.
يمتد الأمر إلى أبعد من ذلك، فالانفلات الأمني الناتج عن ظاهرة المخدرات يؤدي إلى تسرّب الأطفال من التعليم وانتشار السرقة. يقول أبو قاسم، مختار إحدى قرى الريف الغربي، لمراسل درعا 24: “انتشار تعاطي المخدرات بين الشباب بيوجع القلب، تركوا المدارس وصاروا حرامية، والأمر استفحل حتى شمل الأولاد والبنات، وهو أمر مستهجن في حوران”. ويختم كلامه بحسرة “ضاع الجيل يا ابني”.
استهداف واعتقال صيادلة
في تطور ملفت مرتبط بالمخدرات، تعرض عدد من الصيادلة في محافظة درعا للاستهداف والاعتقال والتحقيق، ففي مطلع شهر تموز / يوليو الماضي، استهدف مسلحون الصيدلاني “هايل الغوثاني” من مدينة إنخل في الريف الشمالي من محافظة درعا بإطلاق نار، نتج عن إصابته بجروح، أُسعف على أثرها إلى المشفى. حسب مصدر محلي من أبناء المنطقة لشبكة درعا 24، تلّقى هذا الصيدلي في وقت سابق رسائل تهديد تتهمه بالعمل بالمخدرات. وتلقتْ ثلاث صيادلة آخرين تهديدات مشابهة في ذات المدينة.
في نفس السياق، أكدت عدّة مصادر أهلية من بلدة الجيزة في الريف الشرقي للشبكة، قيام اللواء الثامن في مدينة بصرى الشام بالتحقيق مع الصيدلاني “هيثم الزعبي” وأخيه “هاني”، بتُهم تتعلق ببيع المخدرات، وهما أصحاب صيدليات في الجيزة.
عائلات وأفراد متأثرين بالمخدرات
وثقت درعا 24 مقتل أربعة أشخاص من عائلة واحدة في قرية المزيرعة في الريف الغربي من محافظة درعا، وهم ثلاثة أشقاء ووالدتهم، والسبب الرئيسي للجريمة هو المخدرات. في الثالث من تشرين الثاني عام 2021 أقدم أحد الأبناء على إنهاء حياة والدته، التي تجاوزتْ عتبة الستين من عمرها، بعد خلاف مع إخوته حول أموال مرتبطة بتجارة المخدرات. بعدها بعشرة أيام، لقي الجاني مصرعه على يد أخيه “عبد الرزاق محمد الفهد”، وفي أيار 2024 تم اغتيال شقيق آخر من ذات الأسرة على اتستراد درعا – دمشق، برفقة قيادي يُتهم بالعمل في تجارة المخدرات، وبعد سماع الشقيق “عبد الرزاق محمد الفهد” للخبر أقدم على قتل نفسه بطلق ناري.
تقول السيّدة أم يحيى أنها اعتقدت أنّ أولادها مرضى أو أنهم كغيرهم من الشباب الذي يعاني في هذه البلاد من الأوضاع الاقتصادية أو غيرها، حيث لاحظتْ تراجع حالتهم الجسدية والنفسية وتصرفات غريبة، عرفت لاحقاً أنهم يتعاطون المخدرات، وذلك عن طريق أحد الأشخاص الذي يمتلك صالة للألعاب في المدينة.
توضح: “في البداية أقدم أولادي على تجريب هذه المواد لأنه كان يوزعها بالمجان، وبعد عدة مرات طالبهم بمقابل مالي ليعطيهم المواد المخدرة، وكون أولادي لا يعملون ولا يمتلكون المال، لجأوا إلى سرقة الأموال منّي ومن والدهم، وإلى سرقة أغراض من المنزل وبيعها في بعض الأحيان. هذه الأخبار نزلت علينا مثل الصاعقة، لكن بعد أن فات الأوان، ووقع الفأس بالرأس”.
تُضيف السيدة: “بذلنا محاولات عديدة، لنخرج أبناءنا من مستنقع المخدرات لكن دون جدوى، بل زاد الأمر تعقيداً من التعاطي بالسرّ إلى التعاطي بالعلن، ولا يوجد أيّ جهة لنشتكي إليها عن الأشخاص المروجين في المدينة. بعد نفاذ محاولتنا، قرّرنا أن نرسلهم خارج البلاد، ولم نجد حلاً بديلاً”.
بدورها السيدة “حياة”، تروي لمراسلة درعا 24 عن زوجها وعمله ببيع المخدرات، تقول: “حال زوجي كغيره من الرجال في قريتنا، ليس لديه عمل ثابت، ونحن لدينا أطفال واحتياجات، وزوجي يعمل باليومية، بالعتالة والمشاريع الزراعية، لكن جميعها أعمال مؤقتة لا توفر لنا دخلاً ثابتاً. بعد فترة، بدأ وضع زوجي المادي بالتحسن، وأخبرني أنه وجد عملاً براتب جيد ويكفي لعائلتنا، لكن لم يخبرني ما هي طبيعة العمل، وقال لي: (مش شغلك)”.
تشرح: “بعد مرور أشهر على عمله الجديد، أصبح زوجي يعيش حالة من الذعر، وهاتفه لا يهدأ، ومكالمات لا يجيب عليها، ولا يخرج من البيت أبداً. أخبرني أخيراً أنه يعمل في بيع المخدرات ضمن قريتنا، وعندما قرر ترك هذا العمل نشب خلاف بينه وبين الأشخاص الذين يعملون معه، بحجة أن من يعمل في هذا العمل لا يمكنه تركه، لأنه أصبح يعرف كل الأشخاص الذين يبيعون هذه المواد ويعرف تفاصيل العمل. بقينا على هذه الحالة لفترة، ثمّ عاد زوجي للعمل مرة أخرى في بيع المخدرات”.
تختم: “نعيش الآن تحت رحمتهم، ولا نشعر بالأمان لا أنا ولا أطفالي وزوجي، حياتنا تحت التهديد دائماً”.
وتبقى المخدرات وآثارها مستمرة في تدمير المجتمع في حوران، وفي زيادة حدّة التوتر الأمني وتعقيد المشهد العام، وتعميق الأزمة الاقتصادية. كذلك بالإسهام في تدمير النسيج الاجتماعي والأخلاقي، ورفع معدلات العنف، لتصبح آفة خطيرة تهدد حاضر حوران ومستقبلها على حدٍ سواء.
الرابط: https://daraa24.org/?p=43781