يُعدّ التعاون بين الناس من أقدم العادات المتجذّرة في الجنوب السوري، ويأخذ في الغالب شكل “الفزعة”، وهي تقليد يقوم على التعاون بين أفراد المجتمع، ويعبّر عن روحٍ جماعيةٍ ما تزال حاضرة بقوة رغم تغيّر الزمن والظروف وتبدّل الأحوال. يقوم هذا العرف الشعبي، الذي تناقلته الأجيال في حوران منذ مئات السنين، على مبدأ المساعدة المتبادلة والتضامن، حيث يهبّ الناس لمساندة فرد أو عائلة عند الحاجة، سواء في المناسبات السعيدة أو الأتراح أو خلال الأزمات الطارئة.
أصل العادة في المجتمع الحوراني
يقول المختار أبو محمد، من قرى ريف درعا الشرقي، في حديثه لدرعا 24: “تعود جذور العادة إلى الثقافة العشائرية والريفية التي اشتهرت بها حوران منذ القدم. ففي مواسم الحصاد مثلًا، كان المزارع يطلب الفزعة إذا كان محصوله وفيرًا أو أفراد عائلته قليلين، فيتجمّع رجال القرية لمساعدته، على أن يردّ الجميل لاحقًا بالمشاركة في حصاد أراضي غيره”.
ويتابع: “كنا ننادي على الرجال والنساء العائدين من الحقول إلى القرية، ونقول لهم: ‘هاي شمالتكم’، وهي عبارة تعني طلب العون، فيردّون: ‘ابشروا’، ويفزعون فورًا لمساعدتنا”.
من المساعدة الزراعية إلى المبادرات المجتمعية
لم تكن هذه العادة في حوران قديمًا مقتصرةً على الأعمال الزراعية، رغم أنها كانت الأبرز نظرًا للطبيعة الريفية للمنطقة، لكنها تنوّعت بشكل كبير وشملت مجالات عديدة. وتلخّص المرشدة الاجتماعية ريم الخالد، في حديثها لدرعا 24، أهداف وأشكال هذا التعاون الشعبي في حوران، فتقول: “كانت الفزعة تهدف إلى تنظيم عمل جماعي سريع في توقيتٍ يتطلّب كثافة في الأيدي العاملة، وقد شملت قديمًا مجالات كالبناء، وإطفاء الحرائق، ومواجهة الكوارث المفاجئة”.
وتضيف: “ظهرت أيضًا فزعة المال، وهي جمع التبرعات، وفزعة المناسبات، مثل جمع مبالغ عاجلة لعلاج مريض أو تغطية تكاليف دفن، إضافة إلى الفزعة الرمزية التي تتمثل في الحضور المعنوي ومساندة الأسر أو التضامن مع ضحايا الانتهاكات، وهي فزعات تلعب دورًا كبيرًا في بناء الروابط والدعم النفسي داخل المجتمع”.
وتوضح الخالد أن هذا النوع من التعاون في حوران شكّل على مرّ السنين شبكة أمان غير رسمية، خاصةً في ظل غياب أو ضعف الخدمات الحكومية، حيث تقول: “لم تكن الفزعة مجرد عمل تطوعي، بل تحوّلت إلى رمز للتماسك الاجتماعي، إذ تمنح المشاركين فيها مكانة اعتبارية داخل مجتمعاتهم، وتُعيد إحياء قيم الشهامة والنخوة التي طالما تميزت بها المنطقة”.
وتُضيف أن استمرار هذه العادة في الحياة اليومية أسهم في تخفيف التوترات بين العائلات والعشائر، لأنها تضع الجميع في موقف واحد عند وقوع الأزمات، ما يعزّز روح الانتماء والتضامن.
يتحدث السيد جمال مرعي، مسؤول قسم الحماية المجتمعية في مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، لدرعا 24 عن أشكال جديدة من التعاون انتشرت في المجتمع السوري عمومًا، وفي مجتمع درعا بشكل خاص خلال السنوات الأخيرة. يقول: “في أوقات الأزمات تزداد الحاجة إلى التعاون المجتمعي، وهذا ما حدث فعلًا خلال الأحداث الماضية في سوريا وما رافقها من موجات نزوح، وتدهور اقتصادي، وغياب مؤسسات الدولة، حيث استعادت الفزعة مكانتها كآلية بديلة للتكافل”.
ويضيف: “تميّزت حوران في السنوات الأخيرة بريادة واضحة في تأسيس أشكال مستحدثة للفزعة، خصوصًا في مجالات الخدمات وفضّ النزاعات، الأمر الذي ساعد على تعزيز صمود المجتمع من النواحي الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية، في مواجهة تبعات الأزمة الحادّة”.
يسرد المرعي أمثلة حيّة لأشكال الفزعة المستحدثة، ويشير إلى المبادرات المجتمعية التي كان يطلقها غالبًا الشباب بهدف تأمين الخدمات الأساسية، لا سيما في مجالات التعليم، والنظافة، والصحة، مؤكدًا أن منظمات المجتمع المدني لعبت دورًا محوريًا في دعم هذه المبادرات.
ويضيف أن من أبرز الأمثلة أيضًا الصناديق المالية التي أسسها أبناء حوران المغتربون، خاصة في دول الخليج، لمساعدة أهاليهم في الداخل، معتبرًا أنها تجسيد حديث للفزعة بأدوات جديدة.
ويختم مرعي حديثه بالتأكيد على الدور الحيوي للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في مناصرة هذه المبادرات والصناديق، واصفًا هذا الشكل بـ “الفزعات الرقمية”. كما يشير إلى أهمية الدور الذي تؤديه النساء، معتبرًا أن مشاركتهن الفاعلة تمثل كسرًا للصورة النمطية التي تربط الفزعة بالرجال وحدهم.

ومن أبرز تعليقات الجمهور على تغطية درعا 24 للمبادرات المجتمعية والفزعات:
- “لو ما في فزعة، كان كتير من الناس تأذّوا أو تضرّروا بشدة من الفقر بالأحداث.”
- “الفزعة مش بس مساعدة، هي كرامة وشهامة، وهي اللي بتخلّي الناس تحس إنهم لبعض.”
- “زمان كنا نفزع بالحصيدة، اليوم نفزع للمريض والفقير، بس الروح نفسها.”
- “الفزعة ليست مجرد عادة، هي روح الجماعة. إذا ماتت الفزعة ماتت النخوة، وإذا ماتت النخوة مات المجتمع.”
القيود والتحديات
تؤكد السيدة سعاد الزعبي، الناشطة في المجال الإنساني، في حديثها لشبكة درعا 24، وجود العديد من القيود والتحديات التي تواجه تقليد الفزعة في حوران اليوم. وتوضح أن أبرز هذه التحديات يتمثل في الإرهاق الاقتصادي الذي يعانيه المجتمع نتيجة سنوات الحرب الطويلة، إذ إن الفزعات ذات الطابع المادي تتطلّب وقتًا ومالًا، وحين تصبح المجتمعات نفسها ضحية للحاجة، فإن قدرتها على العطاء والإعارة تتراجع.
وتضيف أن هناك عوائق أخرى مثل الاستقطاب السياسي والقبلي، حيث تُستغل الفزعات أحيانًا لإبراز النفوذ أو استخدامها كأداة ضغط، وقد تؤدي أحيانًا إلى تهميش بعض المجموعات. كما تشير إلى وجود مخاطر أمنية، خاصة في فترة النظام السابق، حيث تعرّض بعض المشاركين في هذه الحملات للخطر.
وترى الزعبي أن الفزعة، بوصفها أداة للسلام وبناء المجتمع، يجب أن تُعزّز بطريقة آمنة وفعالة، من خلال عدة خطوات، منها:
- توثيق ممارسات الفزعة لحمايتها من الاستغلال أو التراجع.
- دعم تشكيل لجان نسائية محلية وتدريبها على إدارة الفزعات.
- ربط الحملات بالمؤسسات المدنية، ودمجها ضمن برامج الحماية المجتمعية، مع توفير مستودعات طوارئ (ماء، أدوية، أدوات بناء).
- وضع آليات لحماية المشاركين قانونيًا وأمنيًا، وتدريبهم على إجراءات السلامة.
اقرأ أيضاً: “أبشري حوران” تتجاوز 37 مليون دولار في يومها الأول بمساهمات بارزة من رجال أعمال من أبناء درعا
قوة مجتمعية
وأكد السيد جمال مرعي، أن الفزعة تمثّل قوة مجتمعية لا ينبغي تحويلها إلى آلية رسمية بالكامل أو تقنينها بشكل يفقدها روحها الطوعية. لكنه يشير في الوقت ذاته إلى أنه لا يجوز تركها دون أي ضوابط، خاصة في حال استُغلت لتمويل ممارسات إقصائية أو لخدمة أهداف سياسية ضيّقة.
ويعتبر مرعي أن الحل الأمثل يكمن في إيجاد توازن يحمي الطابع الشعبي والتقليدي للفزعة، مع تزويدها بأدوات تنظيمية ودرجة كافية من الشفافية لضمان استمرار فعاليتها ومصداقيتها، مع الاستفادة من التكنولوجيا ووسائل الإعلام في الحشد والمناصرة والتنظيم عند إطلاق الفزعات.
في زمنٍ تراجعت فيه الخدمات واشتدت الأزمات، تظل الفزعة شاهدًا حيًّا على قدرة مجتمع درعا على التمسّك بجذوره وقيمه الأصيلة، وإعادة ابتكار تقاليده بما يخدم بقاءه وتماسكه، حيث لا تعتبر مجرد تقليد اجتماعي قديم، بل تمثّل شبكة أمان ثقافية واقتصادية واجتماعية تعبّر عن صلابة مجتمع حوران. وفي أوقات المحن، أثبتت قدرتها على إعادة نسج خيوط التضامن الأهلي، لتكون أكثر من عادة، ولكن روحًا جماعية حيّة تذكّر السوريين بقيمة النخوة ومعنى العيش المشترك.
الرابط: https://daraa24.org/?p=54154