دمشق – 31 تشرين الأول / أكتوبر (رويترز)
قال الرئيس السوري أحمد الشرع مازحًا بعد وصول أكثر من مئة من الموالين له إلى قاعدته السابقة للمتمردين وهم يقودون سيارات فارهة: «لم أكن أعلم أن رواتب الحكومة بهذا الارتفاع!»
ثم وبّخ الشرع المسؤولين ورجال الأعمال المجتمعين قائلًا، وفقًا لشخصين كانا حاضرين في الاجتماع: «هل نسيتم أنكم أبناء الثورة؟»
جاء ذلك بعدما لاحظ العدد الكبير من سيارات كاديلاك إسكاليد ورينج روفر وشيفروليه تاهو المتوقفة في الخارج، وأضاف متسائلًا: «هل أغرتكم الدنيا بهذه السرعة؟»
مرّ الرئيس السوري الجديد، الذي كان يومًا قائدًا عسكريًا متشدّدًا، بعشرة أشهر مضطربة منذ إطاحته بالرئيس بشار الأسد بعد حربٍ أهلية استمرت أربعة عشر عامًا. فقد شهدت البلاد فترات متقطعة من العنف الطائفي بين فصائل سابقة من المعارضة مرتبطة بحكومته الجديدة، وأسفرت عن مقتل أكثر من 2000 شخص، إلى جانب سلسلة من عمليات الإخلاء القسري ومصادرة الممتلكات.
عُقد الاجتماع في 30 آب/أغسطس في المقرّ السابق للشرع بمحافظة إدلب شمال غربي سوريا، بعيدًا عن مكاتبه الرسمية في دمشق. وكان الرئيس – وهو قائد سابق في تنظيم القاعدة – جالسًا بين اثنين من كبار المسؤولين الأمنيين أثناء حديثه.
وبحسب مصادر حضرت الاجتماع، فقد أمر الشرع الموظفين المدنيين الذين يملكون سيارات فاخرة بتسليم مفاتيحها فورًا أو مواجهة التحقيق بتهمة الكسب غير المشروع، مضيفة أن بعض الحضور سلّموا المفاتيح بالفعل أثناء مغادرتهم القاعة.
الرسالة التي وجّهها الشرع إلى الموالين له تُشير، بحسب مسؤولين ومحلّلين سوريين، إلى التحدي الجوهري الذي يواجه الرئيس البالغ من العمر 43 عامًا:
كيف يمكنه الانتقال من قيادة حركة تمرّد مسلّحة إلى حكمٍ مدني دون أن يُعيد إنتاج الفساد المتجذّر في دولة الأسد البوليسية المكروهة؟ وعلى المحكّ تكمن الشرعية التي اكتسبها الشرع في نظر كثير من السوريين، وفي الخارج أيضًا، بعد إطاحته بالديكتاتور.
يقول الباحث السوري حسّام جزماتي، المتخصص في الجماعات الإسلامية والذي درس مسيرة “الشيخ المقاتل” لأكثر من عقد: «الشرع لا يمتلك أي إطار مؤسسي أو نماذج يمكن أن يستند إليها».
«لم يكن نتاج مؤسسة دولة، بل نتاج فصيل مسلّح. فمنذ عام 2003، عمل في بيئة ميليشياوية حيث كانت السلطة تُبنى على التحالفات والمحاباة والاحتكار».
ويضيف جزماتي أن استئثار الموالين بالغنائم يهدد قدرة الشرع على تثبيت حكمه: «إنه بحاجة إلى موارد مالية كبيرة للحفاظ على إدارته — ليس بالضرورة لتحقيق مكاسب شخصية، بل لضمان استمرار سلطته».
وقالت وزارة الإعلام السورية لرويترز إن الشرع نظم «لقاءً وديًا غير رسمي» في إدلب ضمّ قادة سابقين ومسؤولين وشخصيات بارزة، وتناول التحديات السياسية والأمنية وضرورة تغيير ثقافة الاستثمار التي أرساها النظام السابق.
وأكدت الوزارة أن الشرع شدّد على أنه لن يتسامح مع أي شبهة فساد بين موظفي الدولة، لكنها نفت أن يكون قد جرى تسليم مفاتيح سيارات خلال اللقاء.
إقرأ أيضا: الجنوب السوري بعد سقوط النظام: هشاشة أمنية وبداية تحوّلات معقّدة
الشرع يغلق مكتب شقيقه – وفقًا لمصادر
يبدو توازن الشرع الدقيق واضحًا حتى داخل أسرته. فاثنان من إخوته الأكبر سنًّا يشغلان مناصب رفيعة في الحكومة الجديدة:
حازم الشرع يشرف على الاستثمار والأعمال المحلية والأجنبية في سوريا، بما في ذلك إدارة عمل المقاتلين السابقين الذين أوكلت إليهم مهمة إعادة هيكلة الاقتصاد.
ماهر الشرع، طبيب نسائية يحمل الجنسية السورية والروسية، يتولى منصب الأمين العام للرئاسة، ويرأس الاجتماعات الرسمية، ويشارك في اللقاءات مع الشخصيات الأجنبية، من بينها لقاء الرئيس مع فلاديمير بوتين في موسكو هذا الشهر.
وبحسب مسؤولين سوريين، فإن اعتماد الشرع على أقاربه والمقربين منه جاء نتيجة الحاجة إلى سدّ الفراغات بسرعة داخل إدارته بعد الانهيار المفاجئ لحكومة الأسد، لكن منتقدين رأوا في ذلك محاكاة مقلقة لحكم العائلة الذي ساد في العهد السابق.
غير أن شقيقه الأكبر، جمال الشرع، وجد نفسه في مواجهة حملة الرئيس ضد الفساد، وفقًا لستة أشخاص مطلعين على القضية، بينهم مسؤولون حكوميون ورجال أعمال.
فبعد صعود أحمد الشرع إلى السلطة، أسس جمال مكتبًا في دمشق كان يدير منه أنشطة تشمل الاستيراد والتصدير والسياحة. وأصبح ظهوره في فنادق ومطاعم راقية مألوفًا، وكان يُنقل بسيارة مرسيدس S-Class سوداء بزجاج مظلل ومن دون لوحات.
وبحسب المصادر، فقد أمر الرئيس في آب/أغسطس بإغلاق المكتب، ووجّه الجهات الحكومية بعدم التعامل مع شقيقه بسبب شبهات باستغلال النفوذ لعقد اجتماعات مع مسؤولين ورجال أعمال لتحقيق مكاسب شخصية.
وأفاد مراسل رويترز بأن المكتب كان مغلقًا ومختومًا بالشمع الأحمر هذا الشهر، ولم يُجب أحد على جرس الباب. ويُستخدم الشمع الأحمر في سوريا والمنطقة لختم الممتلكات المغلقة بقرار قضائي إلى حين انتهاء التحقيقات.
وأكدت وزارة الإعلام إغلاق المكتب وقالت إن جمال الشرع لم يُسمح له بممارسة أي نشاط استثماري أو تجاري، موضحة أن الرئاسة أكدت منذ تشكيل الحكومة أنه لا يشغل أي منصب رسمي. إلا أن الوزارة لم تذكر ما إذا كانت قد وُجّهت إليه اتهامات محددة.
وبعد فترة قصيرة من الإغلاق، عقد الرئيس اجتماعًا عائليًا ضمّ والده البالغ من العمر 79 عامًا، حذّر خلاله أفراد أسرته من استغلال اسم العائلة لتحقيق مكاسب شخصية، وفقًا لأحد أقاربه الذين حضروا اللقاء.
وفي بيان لرويترز، نفى جمال الشرع وجود أي مكتب أو نشاط تجاري في دمشق، وقال: «التقارير التي تتحدث عن وجود مكتب أعمال أو اجتماعات مع رجال أعمال ومسؤولين هي محض افتراء».
وأضاف: «لكل مواطن سوري الحق في ممارسة أعمال مشروعة ضمن القوانين النافذة، ولا ينبغي استخدام هذا الحق ذريعةً للتشهير أو نشر الاتهامات المغرضة».
إقرأ أيضاً: الاقتصاد السوري بعد سقوط النظام: بين المبادرات المحلية واستثمارات المليارات
مدير مصنع: دفعت 200 ألف دولار مقابل عامل
جاء تحذير الشرع للموالين في آب/أغسطس بعد شكاوى من مواطنين حول مظاهر الرفاهية الجديدة لبعض المقاتلين السابقين الذين أصبحوا موظفين في الدولة، وفق أحد الحاضرين.
ومنذ ذلك الحين، كرّر الشرع رسائله ضد الفساد علنًا في دمشق. ففي مقطع مصور بثته وسائل الإعلام الرسمية في 13 تشرين الأول/أكتوبر، قال الرئيس إن على المسؤولين الإفصاح عن استثماراتهم الحالية، وإنهم ممنوعون من الدخول في أي مشاريع خاصة جديدة.
وأضاف أن العلاقات الشخصية مع رجال الأعمال يجب تجنّبها، محذرًا من تكرار نموذج الفساد الذي ساد في عهد الأسد.
ومع ذلك، تشير مقابلات أجرتها رويترز مع تسعة رجال أعمال ومسؤولين إلى أن الفساد ما زال مستمرًا في سوريا بعد الأسد، ويشمل دفع رشاوى للإفراج عن معتقلين أو استعادة الممتلكات المصادرة من قبل أفراد الطبقة الحاكمة الجديدة.
قال صناعي واثنان من مديري مصانع كبار إنهم اضطروا إلى دفع مبالغ نقدية ضخمة إلى وسطاء نافذين دون إيصالات رسمية لتسيير أعمالهم أو الإفراج عن موظفين محتجزين.
وقال أحدهم إنه دفع 100 ألف دولار لإطلاق سراح عامل، ثم طُلب منه 100 ألفًا إضافية للسماح للعامل بالعودة إلى عمله، فيما قال آخر إنه دفع 25 ألف دولار لإطلاق سراح موظف. ولم تتمكن رويترز من التحقق بشكل مستقل من هذه الروايات.
وقالت وزارة الإعلام إن مثل هذه الممارسات ليست واسعة الانتشار، مؤكدة أن بعض الأشخاص المشتبه بتلقيهم رشاوى أُحيلوا إلى التحقيق الفوري.
وأضافت أن السلطات تعمل على تسوية الملفات العالقة مع الأشخاص المتهمين بارتباطهم بالنظام السابق، عبر تسليم الأصول مقابل السماح لهم باستئناف نشاطهم التجاري، وهي تسويات بدأت فور سقوط دمشق.
وأوضحت الوزارة أن جميع هذه التسويات تُنظّم عبر لجنة الكسب غير المشروع التي أُنشئت في أيار/مايو، على أن تُحوّل الأصول إلى صندوق سيادي جديد لا يزال قيد التأسيس.
ووفق مصادر مطلعة، يضم الصندوق حاليًا مئات الشركات والمكاتب والمصانع والممتلكات التي كانت مملوكة لأشخاص مرتبطين بنظام الأسد. لكن اللجنة والصندوق خضعا بدورهما للتحقيق بعد توقيف محاميين يعملان في الصندوق على خلفية شبهات فساد، ولا يزال أحدهما محتجزًا منذ أكثر من شهر.
وأكدت وزارة الإعلام عمليات الاعتقال، موضحة أن التحقيقات تدور حول سرقة مزعومة لم تُثبت بعد، مشيرة إلى أن بعض أعضاء لجنة الكسب غير المشروع يخضعون أيضًا للتحقيق في شبهات فساد، من دون أن يُعتقلوا رسميًا.
وبينما يرى بعض المراقبين أن هذه الإجراءات قد تشكل بداية لإصلاحٍ حقيقي، يتساءل آخرون: هل تكفي مصادرة المفاتيح؟
أم أن محاربة الفساد تتطلب محاسبة شاملة تشمل الرشاوى والمحسوبيات والهدايا والتزكيات التي بدأت تتسلل إلى مؤسسات الدولة؟
شاركونا بآرائكم
- إعداد التقرير: تيمور أزهري وفراس دلاتي – دمشق
- مساهمة إضافية: سليمان الخالدي
- تحرير: تيمور أزهري
- إشراف التحرير: برافين شار
- وفق مبادئ الثقة لوكالة تومسون رويترز
الرابط: https://daraa24.org/?p=55011






