تعدّ مشكلة الانتحار – التي تعتبر طارئ جديد على المجتمع في محافظة درعا خاصة وسوريا عامة – من القضايا المُعقدة الّتي تتشابك فيها العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد تفاقمتْ هذه المشكلة بشكل ملحوظ في سوريا جراء الحرب المستمرة، وما خلّفته من أزمات إنسانية واقتصادية.
تؤكد الأخصائية الاجتماعية د. هدى بأن السوريين تعرّضوا على مرّ السنوات الماضية لصدمات نفسية هائلة جراء الحرب والدمار. وأدّتْ العمليات العسكرية والاعتداءات إلى مقتل وإصابة وتشريد الملايين. ترى أن هذه الأحداث لم تترك آثارها الجسدية فقط، بل امتدت لتصيب النفوس بمشاعر الحزن والقلق والاكتئاب.
أسباب نفسية واجتماعية
أثبتت الدراسات أن الصدمات النفسية الناجمة عن الحروب تزيد من احتمالية الإصابة بالاضطرابات النفسية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب والقلق، وكلها تعد عوامل خطيرة تزيد من احتمالية الانتحار.
توضح الدكتورة هدى: “أدى النزاع إلى فقدان الأمان والاستقرار، مما جعل الحياة اليومية للسوريين مليئة بالخوف والقلق. إن عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل وانعدام الشعور بالأمان يؤديان إلى زيادة مستويات التوتر والضغط النفسي، وهو ما يمكن أن يدفع الأفراد إلى التفكير في الانتحار كوسيلة للهروب من واقعهم المؤلم”.
بدورها المرشدة الاجتماعية ر.خ من درعا تقول لمراسل درعا 24 : “أسهمت الحرب في تفكك العديد من الأسر وفقدان الروابط الاجتماعية، حيث تفرق الكثير من أفراد الأسرة الواحدة بسبب الهجرة والنزوح. هذا التفكك الاجتماعي يترك الأفراد، وخاصة الأطفال والمراهقين، في حالة من العزلة والوحدة، مما يزيد من حدة الاضطرابات النفسية والميول الانتحارية”.
دفعت الخلافات الأسريّة والعنف المستمر بالسيدة سامية من ريف درعا الغربي إلى محاولة الانتحار، لتضع حداً لمأساتها المستمرة منذ أعوام، لكن محاولتها الانتحار عن طريق تناول جرعة أدوية كبيرة، باءت بالفشل بعد إسعافها بشكل مباشر إلى المشفى.
تقول السيدة: “الانتحار كان الخيار الأخير بالنسبة لي بسبب فشل كل الحلول السابقة لأتخلص من العنف، لكن محاولة الانتحار لم تُغير من واقعي شيء، بل زادت الأمور تعقيداً، وحوّلت حياتي من جحيم لجحيم أكبر، وأُدرك أنّ لا حل لمشكلتي سوى الموت، لأن الطلاق ما هو إلا وسيلة لأنتقل من عنف زوجي لعنف أهلي، والتخلّي عن أطفالي أيضاً”.

في مقابلة سابقة مع شبكة درعا 24 تحدث الطبيب النفسي خالد الحصان حول حالات الانتحار، وما يتعلق بفئة اليافعين، حيث قال: “حالات الانتحار هي حالات قد تكون ناجمة عن أفكار إيذاء ناجمة عن أمراض نفسية، وقد تكون بأكثر الأحيان ناجمة عن اضطراب التعاطي، اضطراب التعاطي يلعب دوراً كبيراً بالأفكار الانتحارية، حيث يصبح الشخص فاقداً للمتعة، لا يجد أي قيمة لحياته، ويشعر بأنه يُشكل عبئاً على من حوله، خاصة في ظل الاتهامات وسيل الكلام الذي يُلاحقه، وبعد أن يدخل الشخص المدمن بموجة التبلّد الناجم عن الإدمان، يكون شخصاً حساساً، ويُصبح فهمه للأفكار دائماً بقلبه أكثر من عقله، وهنا يكون الشخص قابلاً للانتحار أكثر من غيره”.
وتابع: “يجب أن ندرك أن الإدمان، يعتبر نتيجة للضغوطات أو الاضطرابات النفسية. فالمدمن شخص بسيط وطبيعي، صار عنده (شوية) حيثيات بسبب الفهم الخاطئ للمجتمع ولم يستطع أحد استيعابه، فأدى فيه الحال إلى اللجوء إلى مجموعة تستوعبه، وقد يكون فيها رفاق سوء، وقد تكون هي المسبب للضغوط عليه أصلاً، فلجأ يوماً ما للمواد المخدرة، فشعر براحة مرحلية أو تراجع بالأعراض، ومع الوقت تعلق بهذه المادة، ووصل لمرحلة أنه لا يستطيع السيطرة عليها فتحول لشخص مدمن، ويحتاج للمساعدة. كذلك الأمر بحالة من لديهم اضطراب ثنائي القطب، فيكون المريض (هوسي) بمعنى فعّال ومؤذٍ من الخارج، ولكنه يُعاني كثيراً من الداخل لأنه يترافق بين الهوس والثناء القطب، ثنائي القطب هو الهوس والاكتئاب الشديد أو نوبة الاكتئاب الجسيمة، فهذا الاكتئاب قد يولد أفكار انتحارية، ويلعب الاكتئاب دوراً بتكوين الأفكار الانتحارية، تستطيع أن تقول: المزاج السيء يبدأ بأفكار انتحارية، وينتهي بالانتحار”.
أسباب اقتصادية
أدّت حالة الحرب التي تعيشها البلاد إلى تدمير البنية التحتية وانهيار القطاعات الاقتصادية. ارتفعت معدلات الفقر والبطالة بشكل غير مسبوق، خاصة بين الشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان. البطالة الطويلة الأمد تسهم في تدهور الحالة النفسية للأفراد، حيث يفقدون الشعور بالهدف والقيمة الذاتية. هذا الإحساس بالعجز واللامبالاة يمكن أن يدفع البعض إلى الانتحار كوسيلة لإنهاء معاناتهم.
يتحدث أمجد (اسم مستعار لشاب من ريف درعا، في العشرين من عمره) حول حالة أخيه الأكبر الذي حاول الانتحار أمام عائلته: “قبل ست سنوات كان أخي الأكبر هو المعيل لعائلتنا، ويعمل عامل بالأجرة في الأراضي الزراعية أو مواسم قطاف الزيتون وغيرها، حسب المواسم، منذ كان في عمر 19 عام، لكن مع تردي الأوضاع الاقتصادية وغلاء الأسعار لم يعد قادراً على تلبية متطلبات العائلة كاملة، ويوم بعد كانت الأمور تزداد سوءاً، فما كان من أخي إلا أن يُقدم على إحراق نفسه، لكن تدخلنا فوراً ولم يُصب بأذى”.
يضيف أمجد: “هذا الموقف من أصعب المواقف التي مرت في حياتي، ولا أستطيع نسيانه ما حييت”.
إقرأ أيضاً: 2 مليون سوري مصاب بالاكتئاب و300 ألف يفكرون في الانتحار
“المخدرات سبب كلّ بلاء”
“لا يوجد بلاء حل بحوران إلا وكانت المخدرات وراءه”، بهذه الكلمات بدأ المدرس المتقاعد م.أ من مدينة درعا حواره مع المراسل حول ظاهرة الانتحار، وأضاف: “لا شك أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي أسباب مهمة دفعت للأسف عدداً من أبنائنا وبناتنا لإزهاق أرواحهم إلا أنني أعتقد أن البلاء الأكبر هو المخدرات، خاصة أن تدهور الحالة النفسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تسبق انتحار الشباب، والذي غالباً ما يكون بسبب إدمانهم على المخدرات، حيث يتركون المدرسة والعمل و تسوء علاقاتهم بأهلهم ومحيطهم”.
تؤكد الدكتورة هدى هذا الكلام بقولها: “المدمن مهيأ للانتحار في أي وقت. بالإضافة إلى وفاة عدة أشخاص نتيجة تناول جرعات زائدة. ويزيد الطينة بلة قلة عدد مراكز علاج الإدمان أو ضعف دور الموجود منها”.
إقرأ أيضاً: لا مراكز لعلاج الإدمان على المخدرات في محافظة درعا
دور غائب للمنظمات
بعد تطبيق اتفاقية التسوية والمصالحة في منتصف العام 2018، وإعلان السلطات السورية سيطرتها على الجنوب السوري، انسحبت جميع المنظمات غير الحكومية التي كانت تعمل في هذه المناطق منذ العام 2011، وتركت خلفها فراغاً واسعاً.
الاستاذ قاسم (اسم مستعار لمدير سابق في منظمة إنسانية عملت في الجنوب السوري قبل العام 2018) يقول: “أعتقد أن غياب تدخلات المنظمات الانسانية غير الحكومية عن المجتمع في حوران ساهمت في انتشار الانتحار ولو بنسبة معينة”.
يُقّسم الأستاذ قاسم تدخلات المنظمات الانسانية الوقائية في مواجهة الانتحار إلى فئتين: الأولى التمكين الاقتصادي ولا سيما للشباب والنساء والثانية برامج الدعم النفسي والاجتماعي والصحة النفسية.
ضعف الدور الإعلامي وتراجع تأثير الإرشاد الديني
يقول الشيخ أبو إبراهيم إمام وخطيب مسجد في الريف الشرقي: “بالرغم من أن الانتحار كان نادراً في حوران سابقاً، إلا أن منهاج التربية الدينية كان يتناول الموضوع للتحذير منه ومن عواقبه، أما خطب الجمعة والمواعظ الدينية في المساجد فنادراً ما كانت تتطرق للموضوع”.
يتابع: “الآن نتحدث عنه كثيراً على المنابر وفي الدروس الدينية، ويركّز عليه مدرسو التربية الدينية في المدارس، لكن للأسف يوجد تسرّب كثير من المدارس وإحجام واضح من فئة الشباب على حضور صلاة الجمعة، مما يجعل تأثير الوعظ والإرشاد الديني قليلاً”.
يرى الإعلامي عماد محمد أن الإعلام مُقصر في التصدّي لمشكلة الانتحار في حوران، يقول: “لا اتحدث عن الإعلام المنحاز سواء الرسمي أو المرتبط بقوى الصراع، فهذا إعلام لا يُرتجى منه خيراً، إنما الإعلام المستقل المهني والأخلاقي، الذي يلقى قبولاً من فئة الشباب، وهي الفئة الأكثر عرضة للانتحار، حيث ينحصر دوره في التغطية الإعلامية على نقل الخبر، بينما يتوقع منه أكثر من ذلك، ولا سيما التوعية والمناصرة واستخدام أنماط مناسبة مؤثرة كصحافة البيانات والحلول.
أسباب نفسية واجتماعية واقتصادية وأسباب ناتجة عن غياب أدوار مهمة، متفرقةً وربّما مجتمعة، دفعت أفراداً في حوران – جلّهم من الشباب واليافعين والنساء – إلى الانتحار، ورغم تنوع هذه الأسباب إلا أنها نتاج ومخرجات لأزمات متتالية، بدأت في العام 2011 ولا يعرف السوريون متى تنتهي.

رابط التقرير: https://daraa24.org/?p=42526